أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٥٥
قال صلى الله عليه و سلم: " هل قرأ معي أحد منكم "، دل ذلك على أن القارئ خلفه أخفى قراءته ولم يجهر بها، لأنه لو كان جهر بها لما قال: " هل قرأ معي أحد منكم " ثم قال: " إني أقول مالي أنازع القرآن "، وفي ذلك دليل على استواء حكم الصلاة التي يجهر فيها والتي تخافت لإخباره أن قراءة المأموم هي الموجبة لمنازعة القرآن. وأما قوله: " فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر فيه رسول الله " فلا حجة فيه لمن أجاز القراءة خلف الإمام فيما يسر فيه، من قبل أن ذلك قول الراوي وتأويل منه، وليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين حال الجهر والإخفاء.
ومنها حديث يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: كنا نقرأ خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " خلطتم علي القرآن ". وهذا أيضا يدل على التسوية بين حال الجهر والإخفاء إذ لم يذكر فرقا بينهما. وروى الزهري عن عبد الرحمن بن هرمز عن ابن بحينة - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" هل قرأ معي أحد آنفا في الصلاة؟ " قالوا: نعم، قال: " فإني أقول مالي أنازع القرآن "، قال: فانتهى الناس عن القراءة معه منذ قال ذلك، فأخبر في هذا الحديث عن تركهم القراءة خلفه ولم يفرق بين الجهر والإخفاء، فهذه الأخبار كلها توجب النهي عن القراءة خلف الإمام فيما يجهر فيه أو يسر. ومما يدل على ذلك ما روي عن جلة الصحابة من النهي عن القراءة خلف الإمام وإظهار النكير على فاعله، ولو كان ذلك شائعا لما خفي أمره على الصحابة لعموم الحاجة إليه، ولكان من الشارع توقيف للجماعة عليه ولعرفوه ثم كما عرفوا القراءة في الصلاة، إذ كانت الحاجة إلى معرفة القراءة خلف الإمام كهي إلى القراءة في الصلاة للمنفرد و الإمام، فلما روي عن جلة الصحابة إنكار القراءة خلف الإمام ثبت أنها غير جائزة.
فممن نهى عن القراءة خلف الإمام علي وابن مسعود وسعد وجابر وابن عباس وأبو الدرداء وأبو سعيد وابن عمر وزيد بن ثابت وأنس. روى عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي قال: " من قرأ خلف الإمام فقد أخطأ الفطرة ". وروى أبو إسحاق عن علقمة عن عبد الله عن زيد بن ثابت قال: " من قرأ خلف الإمام ملئ فوه ترابا ". وروى وكيع عن عمر بن محمد عن موسى بن سعد عن زيد بن ثابت قال: " من قرأ خلف الإمام فلا صلاة له ". وقال أبو حمزة: قلت لابن عباس: أقرأ خلف الإمام؟ قال: لا. وقال أبو سعيد:
" يكفيك قراءة الإمام ". قال أنس: " القراءة خلف الإمام التسبيح " يعني والله أعلم " التسبيح في الركوع وذكر الاستفتاح. وقال منصور عن إبراهيم: " ما سمعنا بالقراءة خلف الإمام حتى كان المختار الكذاب فاتهموه فقرؤوا خلفه ". وقال سعد: " وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام في فيه جمرة ".
(٥٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 ... » »»