أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٦٦
أخرى: (فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا)، فروي عن ابن عباس ومجاهد أن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى: (قل الأنفال لله والرسول)، وذلك لأنه قد كان جعل النبي صلى الله عليه وسلم ينفل ما أحرزوه بالقتال لمن شاء من الناس لا حق لأحد فيه إلا من جعله النبي صلى الله عليه وسلم له، وأن ذلك كان يوم بدر، وقد ذكرنا حديث سعد في قصة السيف الذي استوهبه من النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " هذا السيف ليس لي ولا لك "، ثم لما نزل: (قل الأنفال لله والرسول) دعاه وقال: " إنك سألتني هذا السيف وليس هو لي ولا لك وقد جعله الله لي وجعلته لك "، وحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال:
حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثنا أبو الأحوص عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: كان يوم بدر تعجل ناس من المسلمين فأصابوا من الغنائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لم تحل الغنائم لقوم سود الرؤوس قبلكم، كان النبي إذا غنم هو وأصحابه جمعوا غنائمهم فتنزل من السماء نار فتأكلها "، فأنزل الله تعالى: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا). وقال:
حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا أحمد بن حنبل قال: حدثنا أبو نوح قال: أخبرنا عكرمة بن عمار قال: حدثنا سماك الحنفي قال: حدثني ابن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الفداء فأنزل الله تعالى: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى) إلى قوله: (لمسكم فيما أخذتم) من الفداء، ثم أحل لهم الغنائم. فأخبر في هذين الخبرين أن الغنائم أحلت بعد وقعة بدر، وهذا مرتب على قوله تعالى: (قل الأنفال لله والرسول) وأنها كانت موكولة إلى رأي النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذه الآية أول آية أبيحت بها الغنائم على جهة تخيير النبي صلى الله عليه وسلم في إعطائها من رأى، ثم نزل قوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه)، وقوله تعالى:
(فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا) وأن فداء الأسارى كان بعد نزول قوله تعالى: (قل الأنفال لله والرسول)، وإنما كان النكير عليهم في أخذ الفداء من الأسرى بديا، ولا دلالة فيه على أن الغنائم لم تكن قد أحلت قبل ذلك على الوجه الذي جعلت للنبي صلى الله عليه وسلم، لأنه جائز أن تكون الغنائم مباحة وفداء الأسرى محظورا، وكذلك يقول أبو حنيفة إنه لا تجوز مفاداة أسرى المشركين. ويدل على أن الجيش لم يكونوا استحقوا قسمة الغنيمة بينهم يوم بدر إلا بجعل النبي ذلك لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخمس غنائم بدر ولم يبين سهام الفارس والراجل إلى أن نزل قوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه)، فجعل بهذه الآية أربعة أخماس الغنيمة للغانمين والخمس للوجوه المذكورة ونسخ به ما كان
(٦٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 ... » »»