أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٤٩٤
مصير الصبي من الضعف إلى القوة ومن الجهل إلى العلم، ونظيره قوله تعالى: (ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة) [الروم: 54].
قوله تعالى: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له). حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قال: حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال: أخبرنا عبد الرزاق عن معمر في قوله:
(وما علمناه الشعر وما ينبغي له) قال: بلغني أن عائشة سئلت: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ فقالت: لا، إلا ببيت أخي بني قيس بن طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا * ويأتيك بالأخبار من لم تزود قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " يأتيك من لم تزود بالأخبار ". فقال أبو بكر: ليس هكذا يا رسول الله، قال: " إني لست بشاعر ولا ينبغي لي ". قال أبو بكر: لم يعط الله نبيه صلى الله عليه وسلم العلم بإنشاء الشعر، لم يكن قد علمه الشعر لأنه الذي يعطي فطنة ذلك من يشاء من عباده، وإنما لم يعط ذلك لئلا تدخل به الشبهة على قوم فيما أتى به من القرآن أنه قوي على ذلك بما في طبعه من الفطنة للشعر، وإذا كان التأويل أنه لم يعطه الفطنة لقول الشعر لم يمتنع على ذلك أن ينشد شعرا لغيره، إلا أنه لم يثبت من وجه صحيح أنه تمثل بشعر لغيره، وإن كان قد روي أنه قال:
هل أنت إلا أصبع دميت * وفي سبيل الله ما لقيت وقد روي أن القائل لذلك بعض الصحابة. وأيضا فإن من أنشد شعرا لغيره أو قال بيتا أو بيتين لم يسم شاعرا ولا يطلق عليه أنه قد علم الشعر أو قد تعلمه، ألا ترى أن من لا يحسن الرمي قد يصيب في بعض الأوقات برميته ولا يستحق بذلك أن يسمى راميا ولا أنه تعلم الرمي؟ فكذلك من أنشد شعرا لغيره وأنشأ بيتا ونحوه لم يسم شاعرا.
قوله تعالى: (قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة).
فيه من أوضح الدليل على أن من قدر على الابتداء كان أقدر على الإعادة إذ كان في ظاهر الأمر أن إعادة الشيء أيسر من ابتدائه، فمن قدر على الانشاء ابتداء فهو على الإعادة أقدر فيما يجوز عليه البقاء. وفيه الدلالة على وجوب القياس والاعتبار، لأنه ألزمهم قياس النشأة الثانية على الأولى.
وربما احتج بعضهم بقوله تعالى: (قال من يحيي العظام وهي رميم) على أن العظم فيه حياة فيجعله حكم الموت بموت الأصل ويكون ميتة. وليس كذلك، لأنه إنما سماه حيا مجازا، إذ كان عضوا يحيا كما قال تعالى: (يحيى الأرض بعد موتها) [الروم: 50]، ومعلوم أنه لا حياة فيها. آخر سورة يس.
(٤٩٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 489 490 491 492 493 494 495 496 497 498 499 ... » »»