أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٤٧٥
عن ابن عباس في رجل قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق إنه ليس بشيء. وروي عن عائشة وجابر في آخرين من التابعين قالوا: " لا طلاق قبل نكاح ". ولا دلالة في هذا اللفظ على مخالفة قول أصحابنا، لأن عندنا أن من قال: " إن تزوجت امرأة فهي طالق " أنه مطلق بعد النكاح، وما قدمنا من دلالة الآية على صحة قولنا كاف في الاحتجاج على المخالف وتصحيح المقالة. ويدل عليه قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) [المائدة: 1] اقتضى ظاهره إلزام كل عاقد موجب عقده ومقتضاه، فلما كان هذا القائل عاقدا على نفسه إيقاع طلاق بعد النكاح وجب أن يلزمه حكمه، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:
" المسلمون عند شروطهم "، أوجب ذلك أن كل من شرط على نفسه شرطا ألزم حكمه عند وجود شرطه. ويدل عليه من طريق النظر اتفاق الجميع على أن النذر لا يصح إلا في ملك، وأن من قال: " إن رزقني الله ألف درهم فلله علي أن أتصدق بمائة منها ". أنه ناذر في ملكه من حيث أضافه إليه وإن لم يكن مالكا في الحال، فكذلك الطلاق والعتق إذا أضافهما إلى الملك كان مطلقا ومعتقا في الملك. ويدل عليه أن من قال لجاريته: " إن ولدت ولدا فهو حر " فحملت بعد ذلك وولدت أنه يعتق وإن لم يكن مالكا في حال القول، لأن الولد مضاف إلى الأم التي هو مالكها، كذلك إذا أضاف العتق إلى الملك فهو معتق في الملك وإن لم يكن له ملك موجود في الحال. وأيضا قد اتفق الجميع على أنه إذا قال لامرأته: " إن دخلت الدار فأنت طالق " فدخلتها مع بقاء النكاح أنها تطلق، ويكون بمنزلة ما لو قال لها في تلك الحال: " أنت طالق "، ولو أبانها ثم دخلها كان بمنزلة ما لو قال لها في تلك الحال: " أنت طالق " فلا تطلق، فدل ذلك على أن الحالف يصير كالمتكلم بالجواب في ذلك الوقت، فوجب أن يكون القائل: " كل امرأة أتزوجها فهي طالق " فتزوج، بمنزلة من تزوج ثم قال لها: " أنت طالق ".
فإن قيل: لو كان هذا صحيحا لوجب أنه لو حلف ثم جن فوجد شرط اليمين أن لا يحنث، لأنه بمنزلة المتكلم بالجواب في ذلك الوقت. قيل له: لا يجب ذلك، لأن المجنون لا قول له وقوله وسكوته بمنزلة، فلما لم يصح قوله لم يصح إيقاعه ابتداء، ولما كان قوله قبل الجنون صحيحا لزمه حكمه في حال الجنون، ومع ذلك فإن المجنون قد يصح طلاق امرأته وعتق عبده لأنه لو كان مجنونا أو عنينا لفرق بينه وبينها وكان طلاقا، ولو ورث أباه عتق عليه، كالنائم لا يصح منه ابتداء الإيقاع ويلزمه حكمه بسبب يوجبه، مثل أن يكون قد وكل بعتق عبده أو طلاق امرأته فطلق وهو نائم.
فإن قيل: قد روي عن علي ومعاذ بن جبل وجابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لا طلاق قبل نكاح ". قيل له: أسانيدها مضطربة لا يصح من جهة النقل، ولو صح من
(٤٧٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 470 471 472 473 474 475 476 477 478 479 480 ... » »»