أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٤٧٠
الدنيا وزينتها لم يوجب ذلك تفريقا بينها وبين زوجها، فلما كان السبب الذي من أجله أوجب الله التخيير المذكور في الآية غير موجب للتخيير في نساء غيره فلا دلالة فيه على التفريق بين امرأة العاجز عن النفقة وبينه. وأيضا فإن اختيار النبي صلى الله عليه وسلم للآخرة دون الدنيا وإيثاره للفقر دون الغنى لم يوجب أن يكون عاجزا عن نفقة نسائه، لأن الفقير قد يقدر على نفقة نسائه مع كونه فقيرا، ولم يدع أحد من الناس ولا روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عاجزا عن نفقة نسائه بل كان يدخر لنسائه قوت سنة، فالمستدل بهذه الآية على ما ذكر مغفل لحكمها.
قوله تعالى: (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين). قيل في تضعيف عذابهن وجهان، أحدهما: أنه لما كانت نعم الله عليهن أكثر منها على غيرهن بكونهن أزواجا للنبي صلى الله عليه وسلم ونزول الوحي في بيوتهن وتشريفهن بذلك، كان كفرانها منهن أعظم وأجدر بعظم العقاب، لأن النعمة كلما عظمت كان كفرانها أعظم فيما يستحق به من العقاب، إذ كان استحقاق العقاب على حسب كفران النعمة، ألا ترى أن من لطم أباه استحق من العقوبة أكثر مما يستحقه من لطم أجنبيا لعظم نعمة أبيه عليه وكفرانه لها بلطمته؟ ويدل على هذا التأويل قوله تعالى في نسق التلاوة: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة)، فدل على أن تضعيف العذاب عليهن بالمعصية لأجل عظم النعمة عليهن بتلاوة آيات الله في بيوتهن، ومن أجل ذلك عظمت طاعاتهن علي أيضا بقوله: (ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين) لأن الطاعة في استحقاق الثواب بها بإزاء المعصية في استحقاق العقاب بها. والوجه الآخر: أن في إتيانهن المعاصي أذى للنبي صلى الله عليه وسلم لما يلحق من العار والغم، ومعلوم أن من آذى النبي صلى الله عليه وسلم فهو أعظم جرما ممن آذى غيره، وقال تعالى: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة) ثم قال: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا). ولما عظم الله تعالى طاعات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأوجب بها الأجر مرتين دل بذلك على أن أجر العامل العالم أفضل وثوابه أعظم من العامل غير العالم، وقوله تعالى: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة) قد دل على ذلك.
قوله تعالى: (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض). قيل فيه أن لا تلين القول للرجال على وجه يوجب الطمع فيهن من أهل الريبة. وفيه الدلالة على أن ذلك حكم سائر النساء في نهيهن عن إلانة القول للرجال على وجه يوجب الطمع فيهن ويستدل به على رغبتهن فيهم، والدلالة على أن الأحسن بالمرأة أن لا ترفع صوتها بحيث
(٤٧٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 465 466 467 468 469 470 471 472 473 474 475 ... » »»