أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٤٧٨
وجويرية ثم اعتقهما وتزوجهما، وذلك مما أفاء الله عليه من الغنيمة. وذكر تعالى بعد ذلك ما أحل له من أقاربه فقال: (وبنات عمك وبنات عماتك)، ثم ذكر ما أحل له من النساء بغير مهر فقال: (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي)، وأخبر أنه مخصوص بذلك دون أمته وأنه وأمته سواء فيمن تقدم ذكرهن.
وقوله تعالى: (اللاتي هاجرن معك)، قال أبي يوسف: لا دلالة فيه على أن اللاتي لم يهاجرن كن محرمات عليه، وهذا يدل على أنه لم يكن يرى أن المخصوص بالذكر يدل على أن ما عداه بخلافه. وروى داود بن أبي هند عن محمد بن أبي موسى عن زياد عن أبي بن كعب قال: قلت له: أرأيت لو هلك نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم أكان له أن ينكح؟
قال: " وما يمنعه؟ أحل الله له ضروبا من النساء فكان يتزوج منهن ما شاء " ثم تلا:
(يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك) الآية. وهذا يدل على أن تخصيص الله تعالى للمذكورات بالإباحة لم يوجب عليه حظر من سواهن عند أبي بن كعب، لأنه أخبر أنهن لو هلكن لكان له أن يتزوج غيرهن. وقد روي عن أم هانىء خلاف ذلك، روى إسرائيل عن السدي عن أبي صالح عن أم هانىء قالت: " خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه بعذر، فأنزل الله: (إنا أحللنا لك أزواجك) إلى قوله: (اللاتي هاجرن معك) قالت:
فلم أكن أحل له لأني لم أهاجر معه، كنت مع الطلقاء ". فإن صح هذا الحديث فإن مذهب أم هانىء أن تخصيصه للمهاجرات منهن قد أوجب حظر من لم تهاجر، ويحتمل أن تكون قد علمت حضرهن بغير دلالة الآية وإن الآية إنما فيها إباحة من هاجرت منهن ولم تعرض لمن لم تهاجر بحظر ولا إباحة إلا أنها قد علمت من جهة أخرى حضرهن.
قوله تعالى: (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي) الآية، فيها نص على إباحة عقد النكاح بلفظ الهبة للنبي صلى الله عليه وسلم. واختلف أهل العلم في عقد النكاح بلفظ الهبة لغير النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والثوري والحسن بن صالح: " يصح النكاح بلفظ الهبة ولها ما سمي لها، وإن لم يسم شيئا فلها مهر مثلها ". وذكر ابن القاسم عن مالك قال: " الهبة لا تحل لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت هبته إياها ليست على نكاح، وإنما وهبها له ليحصنها أو ليكفيها، فلا أرى بذلك بأسا ". وقال الشافعي: " لا يصح النكاح بلفظ الهبة ".
وقد تنازع أهل العلم حكم هذه الآية، فقال قائلون: " كان عقد النكاح بلفظ الهبة مخصوصا به النبي صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى في نسق التلاوة: (خالصة لك من دون المؤمنين) " وقال آخرون: " بل كان النبي صلى الله عليه وسلم وأمته في عقد النكاح بلفظ الهبة سواء، وإنما خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم كانت في جواز استباحة البضع بغير بدل "، وقد روي نحو ذلك عن مجاهد
(٤٧٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 473 474 475 476 477 478 479 480 481 482 483 ... » »»