أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٢٧٧
قوله تعالى: (لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا). قيل فيه وجوه، أحدها: ما ألبسهم الله تعالى من الهيبة لئلا يصل إليهم أحد حتى يبلغ الكتاب أجله فيهم وينتبهوا من رقدتهم، وذلك وصفهم في حال نومهم لا بعد اليقظة. والثاني:
أنهم كانوا في مكان موحش من الكهف أعينهم مفتوحة يتنفسون ولا يتكلمون. والثالث:
أن أظفارهم وشعورهم طالت فلذلك يأخذ الرعب منهم.
قوله تعالى: (قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم). لما حكى الله ذلك عنهم غير منكر لقولهم علمنا أنهم كانوا مصيبين في إطلاق ذلك، لأن مصدره إلى ما كان عندهم من مقدار اللبث وفي اعتقادهم لا عن حقيقة اللبث في المغيب، وكذلك هذا في قوله:
(فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم) [البقرة: 259] ولم ينكر الله ذلك، لأنه أخبر عما عنده وفي اعتقاده لا عن مغيب أمره. وكذلك قول موسى عليه السلام للخضر: (أفتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا) [الكهف: 74] و (لقد جئت شيئا إمرا) الكهف: 71] يعني: عندي كذلك. ونحوه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " كل ذلك لم يكن " حين قال ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت؟.
قوله تعالى: (فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة " الآية، يدل على جواز خلط دراهم الجماعة والشرى بها والأكل من الطعام الذي بينهم بالشركة وإن كان بعضهم قد يأكل أكثر مما يأكل غيره، وهذا الذي يسميه الناس المناهدة ويفعلونه في الأسفار، وذلك لأنهم قالوا: فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة، فأضاف الورق إلى الجماعة، ونحوه قوله تعالى: (وإن تخالطوهم فإخوانكم) [البقرة: 220] فأباح لهم بذلك خلط طعام اليتيم بطعامهم وأن تكون يده مع أيديهم مع جواز أن يكون بعضهم أكثر أكلا من غيره. وفي هذه الآية دلالة على جواز الوكالة بالشرى، لأن الذي بعثوا به كان وكيلا لهم.
باب الاستثناء في اليمين قال الله تعالى: (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله). قال أبو بكر: هذا الضرب من الاستثناء يدخل لرفع حكم الكلام حتى يكون وجوده وعدمه سواء، وذلك لأن الله تعالى ندبه الاستثناء بمشيئة الله تعالى لئلا يصير كاذبا بالحلف، فدل على أن حكمه ما وصفنا. ويدل عليه أيضا قوله عز وجل حاكيا عن موسى عليه السلام:
(ستجدني إن شاء الله صابرا) [الكهف: 69] فلم يصبر ولم يك كاذبا لوجود الاستثناء في كلامه، فدل على أن معناه ما وصفنا من دخوله في الكلام لرفع حكمه فوجب أن لا يختلف حكمه في دخوله على اليمين أو على إيقاع الطلاق أو على العتاق. وقد روى
(٢٧٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 272 273 274 275 276 277 278 279 280 281 282 ... » »»