أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٢٧٦
ومن سورة الكهف بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى: (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا)، فيه بيان أن ما جعله زينة لها من النبات والحيوان وغير ذلك سيجعله صعيدا جرزا، والصعيد: الأرض، والصعيد: التراب. وما ذكره الله تعالى من إحالته ما عليها مما هو زينة لها صعيدا هو مشاهد معلوم من طبع الأرض، إذ كل ما يحصل فيها من نبات أو حيوان أو حديد أو رصاص أو نحوه من الجواهر يستحيل ترابا، فإذا كان الله جل وعلا قد أخبر أن ما عليها يصيره صعيدا جرزا وأباح مع ذلك التيمم بالصعيد وجب بعموم ذلك جواز التيمم بالصعيد الذي كان نباتا أو حيوانا أو حديدا أو رصاصا أو غير ذلك لإطلاقه تعالى الأمر بالتيمم بالصعيد. وفي ذلك دليل على صحة قول أصحابنا في النجاسات إذ استحالت أرضا أنها طاهرة، لأنها في هذه الحال أرض ليست بنجاسة، وكذلك قالوا في نجاسة أحرقت فصارت رمادا أنها طاهر، لأن الرماد في نفسه طاهر وليس بنجاسة، ولا فرق بين رماد النجاسة وبين رماد الخشب الطاهر، إذ النجاسة هي التي توجد على ضرب من الاستحالة وقد زال ذلك عنها بالإحراق وصارت إلى ضرب الاستحالة التي لا توجب التنجيس، وكذلك الخمر إذا استحالت خلا فهو طاهر لأنه في الحال ليس بخمر لزوال الاستحالة الموجبة لكونها خمرا.
قوله تعالى: (إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من أمرنا رشدا)، فيه الدلالة على أن على الانسان أن يهرب بدينه إذا خاف الفتنة فيه وأن عليه أن لا يتعرض لإظهار كلمة الكفر وإن كان على وجه التقية ويدل على أنه إذا أراد الهرب بدينه خوف الفتنة أن يدعو بالدعاء الذي حكاه الله عنهم، لأن الله قد رضي ذلك من فعلهم وأجاب دعاءهم وحكاه لنا على جهة الاستحسان لما كان منهم.
قوله تعالى: (لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا)، معناه: ليظهر المعلوم في اختلاف الحزبين في مدة لبثهم لما في ذلك من العبرة.
(٢٧٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 271 272 273 274 275 276 277 278 279 280 281 ... » »»