الآخر: قوله تعالى: (فاجتنبوه) وذلك أمر والأمر يقتضي الإيجاب، فانتظمت الآية تحريم الخمر من هذين الوجهين.
والخمر هي عصير العنب الني المشتد، وذلك متفق عليه أنه خمر. وقد سمى بعض الأشربة المحرمة باسم الخمر تشبيها بها، مثل الفضيخ وهو نقيع البسر ونقيع التمر، وإن لم يتناولهما اسم الإطلاق. وقد روي في معنى الخمر آثار مختلفة، منها ما روى مالك بن مغول عن نافع عن ابن عمر قال: " لقد حرمت الخمر وما بالمدينة منها شئ " وقد علمنا أنه كان بالمدينة نقيع التمر والبسر وسائر ما يتخذ منهما من الأشربة، ولم يكن ابن عمر ممن يخفى عليه الأسماء اللغوية، فهذا يدل على أن أشربة النخل لم تكن عنده تسمى خمرا. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: " نزل تحريم الخمر وهو الفضيخ "، فأخبر ابن عباس أن الفضيخ خمر، وجائز أن يكون سماه خمرا من حيث كان شرابا محرما. وروى حميد الطويل عن أنس قال: " كنت أسقي أبا عبيدة وأبي بن كعب وسهيل بن بيضاء في نفر في بيت أبي طلحة، فمر بنا رجل فقال: إن الخمر قد حرمت، فوالله ما قالوا حتى نتبين حتى قالوا: أهرق ما في إنائك يا أنس! ثم ما عادوا فيها حتى لقوا الله عز وجل، وإنه البسر والتمر وهو خمرنا يومئذ ". فأخبر أنس أن الخمر يوم حرمت البسر والتمر، وهذا جائز أن يكون لما كان محرما سماه خمرا، وأن يكون المراد أنهم كانوا يجرونه مجرى الخمر ويقيمونه مقامها، لا أن ذلك اسم له على الحقيقة.
ويدل عليه أن قتادة روى عن أنس هذا الحديث، وقال: " إنما نعدها يومئذ خمرا " فأخبر أنهم كانوا يعدونها خمرا على معنى أنهم يجرونها مجرى الخمر. وروى ثابت عن أنس قال: " حرمت علينا الخمر يوم حرمت وما نجد خمور الأعناب إلا القليل وعامة خمورنا البسر والتمر " ومع هذا أيضا معناه أنهم كانوا يجرونه مجرى الخمر في الشرب وطلب الإسكار وطيبة النفس، وإنما كان شراب البسر والتمر. وروى المختار بن فلفل قال:
سألت أنس بن مالك عن الأشربة فقال: " حرمت الخمر وهي من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والذرة، وما خمرت من ذلك فهو خمر " فذكر في الحديث الأول أنه من البسر والتمر، وذكر في هذا الحديث أنها من ستة أشياء، فكان عنده أن ما أسكر من هذه الأشربة فهو خمر، ثم قال: " وما خمرت من ذلك فهو خمر " وهذا يدل على أنه إنما سمي ذلك خمرا في حال الإسكار، وأن ما لا يسكر منه فليس بخمر. وقد روي عن عمر أنه قال: " إن الخمر حرمت وهي من خمسة أشياء: من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل "، وهذا أيضا يدل على أنه إنما سماه خمرا في حال ما أسكر إذا أكثر منه، لقوله: " والخمر ما خامر العقل ". وقد روي عن السري بن إسماعيل