أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٥٨٣
تفعل " ونحو ذلك، فيعملون في سائر ما يهتمون به من أعمالهم على ما تخرجه تلك السهام من أمر أو نهي أو إثبات أو نفي، ويستعملونها في الأنساب أيضا إذا شكوا فيها، فإن خرج " لا " نفوه، وإن خرج " نعم " أثبتوه، وهي سهام الميسر أيضا.
وأما قوله: " رجس من عمل الشيطان). فإن الرجس هو الذي يلزم اجتنابه إما لنجاسته وإما لقبح ما يفعل به عباده أو تعظيم، لأنه يقال: " رجس نجس " فيراد بالرجس النجس، ويتبع أحدهما الآخر، كقولهم: " حسن بسن " و " عطشان نطشان " وما جرى مجرى ذلك. والرجز قد قيل فيه إنه العذاب في قوله تعالى: (لئن كشفت عنا الرجز) [الأعراف: 134] أي العذاب. وقد يكون في معنى الرجس كما في قوله:
والرجز فاهجر) [المدثر: 5] وقوله: (ويذهب عنكم رجز الشيطان) [الأنفال: 11].
وإنما قال تعالى: (من عمل الشيطان) لأنه يدعو إليه ويأمر به، فأكد بذلك أيضا حكم تحريمها، إذ كان الشيطان لا يأمر إلا بالمعاصي والقبائح والمحرمات، وجازت نسبته إلى الشيطان على وجه المجاز، إذ كان هو الداعي إليه والمزين له، ألا ترى أن رجلا لو أغرى غيره بضرب غيره أو بسبه وزينه له جاز أن يقال له هذا من عملك؟.
قوله تعالى: (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر) الآية، فإنما يريد به ما يدعو الشيطان إليه ويزينه من شرب الخمر حتى يسكر منها شاربها فيقدم على القبائح ويعربد على جلسائه فيؤدي ذلك إلى العداوة والبغضاء، وكذلك القمار يؤدي إلى ذلك، قال قتادة: " كان الرجل يقامر في ماله وأهله فيقمر ويبقى حزينا سليبا فيكسبه ذلك العداوة والبغضاء ". ومن الناس من يستدل به على تحريم النبيذ، إذ كان السكر منه يوجب من العداوة والبغضاء مثل ما يوجبه السكر في الخمر، وهذا المعنى لعمري موجود فيما يوجب السكر منه غير موجود فيما لا يوجبه، ولا خلاف في تحريم ما يوجب السكر منه، وأما قليل الخمر فليست هذه العلة موجودة فيه فهو محرم لعينه، وليس فيه علة تقتضي تحريم قليل النبيذ.
قوله تعالى: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا) قال ابن عباس وجابر والبراء بن عازب وأنس بن مالك والحسن ومجاهد وقتادة والضحاك: " لما حرم الخمر كان قد مات رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يشربون الخمر قبل أن تحرم، فقالت الصحابة: كيف بمن مات منا وهم يشربونها؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية ".
وروى عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي: أن قوما شربوا بالشام وقالوا هي لنا حلال وتأولوا هذه الآية، فأجمع عمر وعلي على أن يستتابوا فإن تابوا وإلا
(٥٨٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 578 579 580 581 582 583 584 585 586 587 588 ... » »»