أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٥٧٥
عليه في الأيام وبين الجماعة. ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى: (أو كسوتهم) ومعلوم أن كسوتهم عشرة أثواب، فصار تقديره: " أو عشرة أثواب " لم يخصصها بمسكين واحد ولا بجماعة، فوجب أن يجزي إعطاؤها لواحد منهم، ألا ترى أنه يجوز أن تقول أعطيت كسوة عشرة مساكين مسكينا واحدا؟ فقوله تعالى: (أو كسوتهم) يدل من هذا الوجه على أنه غير مقصور على أعداد المساكين عشرة، ويدل أيضا من الوجه الذي دل عليه ذكر الطعام على الوجه الذي ذكرنا، ولا تجزي الكسوة عندهم إذا أعطاها مسكينا واحدا إلا أن يعطيه كل يوم ثوبا، لأنه لما ثبت ما وصفنا في الطعام من تفريقه في الأيام، وجب مثله في الكسوة إذ لم يفرق واحد بينهما.
مطلب: أجاز أصحابنا إعطاء قيمة الطعام والكسوة وأجاز أصحابنا إعطاء قيمة الطعام والكسوة، لما ثبت أن المقصد فيه حصول النفع للمساكين بهذا القدر من المال ويحصل لهم من النفع بالقيمة مثل حصوله بالطعام والكسوة. ولما صح إعطاء القيمة في الزكوات من جهة الآثار والنظر، وجب مثله في الكفارة، لأن أحدا لم يفرق بينهما، ومع ذلك فليس يمتنع إطلاق الاسم على من أعطى غيره دراهم يشتري بها ما يأكله ويلبسه بأن يقال: قد أطعمه وكساه، وإذا كان إطلاق ذلك سائغا انتظمه لفظ الآية، ألا ترى أن حقيقة الإطعام أن يطعمه إياه بأن يبيحه له فيأكله؟
ومع ذلك فلو ملكه إياه ولم يأكله المسكين وباعه أجزأه، وإن لم يتناوله حقيقة اللفظ بحصول المقصد في وصول هذا القدر من المال إليه، وإن لم يطعمه ولم ينتفع به من جهة الأكل، وكذلك لو أعطاه كسوة فلم يكتس بها وباعها، وإن لم يكن له كاسيا بإعطائه إذ كان موصلا إليه هذا القدر من المال بإعطائه إياه فثبت بذلك أنه ليس المقصد حصول المطعم والاكتساء، وأن المقصد وصوله إلى هذا القدر من المال، فلا يختلف حينئذ حكم الدراهم والثياب والطعام، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قدر في صدقة الفطر نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو شعير ثم قال: " أغنوهم عن المسألة في هذا اليوم "؟ فأخبر أن المقصود حصول الغنى لهم عن المسألة لا مقدار الطعام بعينه، إذ كان الغنى عن المسألة يحصل بالقيمة كحصوله بالطعام.
فإن قال قائل: لو جازت القيمة وكان المقصد فيه حصول هذا القدر من المال للمساكين لما كان لذكر الإطعام والكسوة فائدة مع تفاوت قيمتها في أكثر الأحوال، وفي ذكره الطعام أو الكسوة دلالة على أنه غير جائز أن يتعداهما إلى القيمة، وأنه ليس المقصد حصول النفع بهذا القدر من المال دون عين الطعام والكسوة. قيل له: ليس الأمر على ما ظننت، وفي ذكره الطعام والكسوة أعظم الفوائد، وذلك أنه ذكرهما ودلنا بما ذكر على
(٥٧٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 570 571 572 573 574 575 576 577 578 579 580 ... » »»