أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٤٥
اليهود صاروا كذلك من الذلة والمسكنة إلا أن يجعل المسلمون لهم عهد الله وذمته، لأن الحبل في هذا الموضع هو العهد والأمان.
قوله تعالى: (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون). قال ابن عباس وقتادة وابن جريج: " لما أسلم عبد الله بن سلام وجماعة معه قالت اليهود: ما آمن بمحمد إلا شرارنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية ". قال الحسن:
" قوله: (قائمة) يعني عادلة "، وقال ابن عباس وقتادة والربيع بن أنس: " ثابتة على أمر الله تعالى "، وقال السدي: " قائمة بطاعة الله تعالى ". وقوله: (وهم يسجدون) قيل فيه إنه السجود المعروف في الصلاة، وقال بعضهم: " معناه يصلون لأن القراءة لا تكون في السجود ولا في الركوع " فجعلوا الواو حالا، وهو قول الفراء. وقال الأولون: الواو ههنا للعطف، كأنه قال: يتلون آيات الله آناء الليل وهم مع ذلك يسجدون.
قوله تعالى: (يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر))، صفة لهؤلاء الذين آمنوا من أهل الكتاب لأنهم آمنوا بالله ورسوله ودعوا الناس إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم والإنكار على من خالفه، فكانوا ممن قال الله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) في الآية المتقدمة، وقد بينا ما دل عليه القرآن من وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فإن قيل: فهل تجب إزالة المنكر من طريق اعتقاد المذاهب الفاسدة على وجه التأويل كما وجب في سائر المناكير من الأفعال؟ قيل له: هذا على وجهين:
فمن كان منهم داعيا إلى مقالته فيضل الناس بشبهته فإنه تجب إزالته عن ذلك بما أمكن، ومن كان منهم معتقدا ذلك في نفسه غير داع إليها فإنما يدعى إلى الحق بإقامة الدلالة على صحة قول الحق وتبين فساد شبهته ما لم يخرج على أهل الحق بسفيه ويكون له أصحاب يمتنع بهم عن الإمام، فإن خرج داعيا إلى مقالته مقاتلا عليها فهذا الباغي الذي أمر الله تعالى بقتاله حتى يفئ إلى أمر الله تعالى.
وقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه كان قائما على المنبر بالكوفة يخطب فقال الخوارج من ناحية المسجد: لا حكم إلا لله، فقطع خطبته وقال: " كلمة حق يراد بها باطل، أما إن لهم عندنا ثلاثا: أن لا نمنعهم حقهم من الفئ ما كانت أيديهم مع أيدينا، ولا نمنعهم مساجد الله أن يذكروا فيها اسمه، ولا نقاتلهم حتى يقاتلونا "، فأخبر أنه لا يجب قتالهم حتى يقاتلونا، وكان ابتدأهم علي كرم الله وجهه بالدعاء حين نزلوا حروراء وحاجهم حتى رجع بعضهم. وذلك أصل في سائر المتأولين من أهل المذاهب الفاسدة أنهم ما لم يخرجوا داعين إلى مذاهبهم لم يقاتلوا وأقروا على ما هم عليه ما لم يكن ذلك المذهب كفرا، فإنه غير جائز إقرار أحد من الكفار على كفره إلا بجزية، وليس يجوز
(٤٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 ... » »»