الترجيع في الأذان وفي تثنية الإقامة وتكبيرات العيدين والتشريق ونحو ذلك مما الكلام فيه بين الفقهاء في الأفضل، فمن ذهب إلى وجه منها فغير معنف عليه في اختياره، وكان الأولى عندنا ما وافق ظاهر الآية والأصول. وفي حديث جابر وأبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بكل طائفة ركعتين، فجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد كان مقيما حين صلاها كذلك، ويكون قولهما " إنه سلم في الركعتين " المراد به تسليم التشهد، وذلك لأن ظاهر الكتاب ينفيه على الوجه الذي يقتضيه ظاهر الخبر، لأن الله تعالى قال: (فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم) وظاهر الخبر يوجب أن يكونوا مصلين مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد السجود على الحال التي كانوا عليها قبله.
فإن قيل: كيف يكون مقيما في البادية وهي ذات الرقاع وليست موضع إقامة ولا هي بالقرب من المدينة؟ قيل له: جائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة لم ينو سفر ثلاث وإنما نوى في كل موضع يبلغ إليه سفر يوم أو يومين، فيكون مقيما عندنا، إذ لم ينشئ سفر ثلاث وإن كان في البادية، ويحتمل أن يكون فعلها في الوقت الذي يعاد الفرض فيه، وذلك منسوخ عندنا، وعلى أنه لو كان كذلك لم تكن صلاة خوف وإنما هي صلاة على هيئة سائر الصلوات، ولا خلاف أن صلاة الخوف مخالفة لسائر الصلوات المفعولة في حال الأمن.
وأما القول الذي روي عن أبي يوسف في أنه لا تصلى بعد النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف وأنه ينبغي أن تصلى عند الخوف بإمامين، فإنه ذهب فيه إلى ظاهر قول الله تعالى: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) فخص هذه الصلاة بكون النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، وأباح لهم فعلها معه على هذا الوجه ليدركوا فضيلة الصلاة خلفه التي مثلها لا يوجد في الصلاة خلف غيره، فغير جائز بعده لأحد أن يصليها إلا بإمامين، لأن فضيلة الصلاة خلف الثاني كهي خلف الأول، فلا يحتاج إلى مشي واختلاف واستدبار القبلة مما هو مناف للصلاة. قال أبو بكر: فأما تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب بها بقوله: (وإذا كنت فيهم) فليس بموجب بالاقتصار عليه بهذا الحكم دون غيره، لأن الذي قال: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) هو الذي قال: (فاتبعوه) [سبأ: 20]، فإذا وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد فعل فعلا فعلينا اتباعه فيه على الوجه الذي فعله، ألا ترى أن قوله: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم) [التوبة: 103] لم يوجب كون النبي صلى الله عليه وسلم مخصوصا به دون غيره من الأئمة بعده؟ وكذلك قوله: (إذا جاءك المؤمنات يبايعنك) [الممتحنة: 12] وكذلك قوله:
(وأن احكم بينهم بما أنزل الله) [المائدة: 49] وقوله: (فإن جاؤوك فاحكم بينهم)