فإن قيل: لما قال تعالى: (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) ولم يكن دليل القياس مفضيا بنا إلى العلم بمدلوله، إذ كان القائس يجوز على نفسه الخطأ ولا يجوز القطع بأن ما أداه إليه قياسه واجتهاده هو الحق عند الله، علمنا أنه لم يرد الاستنباط من طريق القياس والاجتهاد. قيل له: قولك: " إن القائس لا يقطع بأن قياسه هو الحق عند الله " خطأ لا نقول به، وذلك أن ما كان طريقه الاجتهاد فإن المجتهد ينبغي له أن يقطع بأن ما أداه إليه اجتهاده هو الحق عند الله، وهذا عندنا علم منه بأن هذا حكم الله عليه، فاستنباطه حكم الحوادث من طريق الاجتهاد يوجب العلم بصحة موجبه وما أداه إليه اجتهاده.
وهذه الآية أيضا تدل على بطلان قول القائلين بالإمامة، لأنه لو كان كل شئ من أحكام الدين منصوصا عليه لعرفه الإمام ولزال موضع الاستنباط وسقط الرد إلى أولي الأمر، بل كان الواجب الرد إلى الإمام الذي يعرف صحة ذلك من باطله من جهة النص.
قوله تعالى: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها)، قال أهل اللغة:
التحية الملك، ومنه قول الشاعر:
أسير به إلى النعمان حتى * أنيح على تحيته بجند يعني: على ملكه. ومعنى قولهم: " حياك الله " أي " ملكك الله ". ويسمى السلام تحية أيضا، لأنهم كانوا يقولون حياك الله فأبدلوا منه بعد الاسلام بالسلام وأقيم مقام قولهم حياك الله. قال أبو ذر: كنت أول من حيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحية الاسلام فقلت:
السلام عليك ورحمة الله. وقال النابغة:
يحيون بالريحان يوم السباسب يعني أنهم يعطون الريحان. ويقال لهم " حياكم الله " والأصل فيه ما ذكرنا من أنه ملكك الله، فإذا حملنا قوله تعالى: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) على حقيقته أفاد أن من ملك غيره شيئا بغير بدل فله الرجوع فيه ما لم يثبت منه، فهذا يدل على صحة قول أصحابنا فيمن وهب لغير ذي رحم أن له الرجوع فيها ما لم يثبت منها، فإذا أثيب منها فلا رجوع له فيها، لأنه أوجب أحد شيئين من ثواب أو رد لما جيء به.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجوع في الهبة ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا سليمان بن داود المهري قال: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني أسامة بن