أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٢٥١
في وجهه فحثا في وجهه التراب وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب ". وقد روي: " إياكم والتمادح فإنه الذبح ". فهذا إذا كان على وجه الفخر فقد كره، وأما أن يتحدث بنعم الله عنده أو يذكرها غيره بحضرته فهذا نرجو أن لا يضر، إلا أن أصلح الأشياء لقلب الانسان أن لا يغتر بمدح الناس له ولا يعتد به.
وقوله تعالى: (والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) معناه والله أعلم: أنه أعد للذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل والذين ينفقون أموالهم رياء الناس عذابا مهينا، وفي ذلك دليل على أن كل ما يفعله العبد لغير وجه الله فإنه لا قربة فيه ولا يستحق عليه الثواب، لأن ما يفعل على وجه الرياء فإنما يريد به عوضا من الدنيا كالذكر الجميل والثناء الحسن، فصار ذلك أصلا في أن كل ما أريد به عوض من أعواض الدنيا أنه ليس بقربة، كالاستيجار على الحج وعلى الصلاة الصلاة وسائر القرب، أنه متى استحق عليه عوضا يخرج بذلك عن باب القربة. وقد علمنا أن هذه الأشياء سبيلها أن لا تفعل إلا على وجه القربة، فثبت بذلك أنه لا يجوز أن يستحق عليها الأجرة وأن الإجارة عليها باطلة.
قوله تعالى: (وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله) يدل على بطلان مذهب أهل الجبر، لأنهم لو لم يكونوا مستطيعين للإيمان بالله والإنفاق لما جاز أن يقال ذلك فيهم، لأن عذرهم واضح وهو أنهم غير ممكنين مما دعوا إليه ولا قادرين عليه، كما لا يقال للأعمى: " ماذا عليه لو أبصر " ولا يقال للمريض: " ماذا عليه لو كان صحيحا "، وفي ذلك أوضح دليل على أن الله قطع عذرهم من فعل ما كلفهم من الإيمان وسائر الطاعات وأنهم ممكنون من فعلها.
وقوله تعالى: (يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا)، فأخبر الله عنهم أنهم لا يكتمون الله هناك شيئا من أحوالهم وما عملوه، لعلمهم بأن الله مطلع عليهم عالم بأسرارهم، فيقرون بها ولا يكتمونها. وقيل:
يجوز أن يكون المراد أنهم لا يكتمون أسرارهم هناك كما كانوا يكتمونها في الدنيا.
فإن قيل: قد أخبر الله عنهم أنهم يقولون والله ربنا ما كنا مشركين. قيل له: فيه وجوه، أحدها: أن الآخرة مواطن فموطن لا تسمع فيه إلا همسا أي صوتا خفيا، وموطن يكذبون فيه فيقولون ما كنا نعمل من سوء والله ربنا ما كنا مشركين، وموطن يعترفون فيه بالخطأ ويسألون الله أن يردهم إلى دار الدنيا، وروي ذلك عن الحسن. وقال ابن عباس:
(٢٥١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 246 247 248 249 250 251 252 253 254 255 256 ... » »»