واحتج من أبى ذلك بما روى أبو عاصم النبيل قال: حدثنا مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة "، وكذلك رواه عن مالك أبو قتيلة المدني وعبد الملك بن عبد العزيز الماجشون. وهذا الحديث رواه هؤلاء موصولا عن أبي هريرة وأصله عن سعيد بن المسيب مقطوع، رواه معن ووكيع والقعنبي وابن وهب كلهم عن مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب من غير ذكر أبي هريرة، وكذلك هو في موطأ مالك. ولو ثبت موصولا لما جاز الاعتراض به على الأخبار التي رواها نحو عشرة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم في إيجاب الشفعة للجار، لأنها في حيز المتواتر المستفيض الذي لا تجوز معارضته بأخبار الآحاد. ولو ثبت من وجوه يجوز أن يعارض به ما قدمنا ذكره لم يكن فيه ما ينفي أخبار إيجاب الشفعة للجار، وذلك لأن أكثر ما فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة فيما لم يقسم، ثم قال: " فإذا وقعت الحدود فلا شفعة "، فأما قوله: " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم " فإنه متفق على استعماله في إيجاب الشفعة للشريك، ومع ذلك فهو حكاية قضية من النبي صلى الله عليه وسلم قضى بها، وليس بعموم لفظ ولا حكاية قول منه. وأما قوله: " فإذا وقعت الحدود فلا شفعة " فإنه يحتمل أن يكون من كلام الراوي، إذ ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، ولا أنه قضى به، وإذا احتمل أن تكون رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم واحتمل أن يكون من قول الراوي أدرجه في الحديث، كما وجد ذلك في كثير من الأخبار، لم يجز لنا إثباته عن النبي صلى الله عليه وسلم، إذ غير جائز لأحد أن يعزي إلى النبي صلى الله عليه وسلم مقالة بالشك والاحتمال، فهذا وجه منع الاعتراض به على ما ذكرنا.
واحتجوا أيضا بما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا حامد بن محمد المردف قال: حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد قال: حدثنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله قال: " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة ".
وهذا لا دلالة فيه على نفي الشفعة بالجوار من وجهين، أحدهما: أنه إنما نفى وجوب الشفعة إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق، فأفاد بذلك نفي الشفعة لغير الجار الملاصق، لأن صرف الطرق ينفي الملاصقة، لأن بينه وبين جاره طريقا. والثاني: أنا متى حملناه على حقيقته كان الذي يقتضيه اللفظ نفي الشفعة عند وقوع الحدود وصرف الطرق، ووقوع الحدود وصرف الطرق إنما هو القسمة، فكأنه إنما أفاد أن القسمة لا شفعة فيها، كما قال أصحابنا إنه لا شفعة في قسمة، وكذلك الحديث الأول محمول على ذلك أيضا.
وأيضا فقد روى عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: