أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٢٣٥
الحلف أشياء قد حظرها الاسلام، وهو أنه كان يشرط أن يحامي عليه ويبذل دمه دونه ويهدم ما يهدمه فينصره على الحق والباطل، وقد أبطلت الشريعة هذا الحلف وأوجبت معونة المظلوم على الظالم حتى يتنصف منه وأن لا يلتفت إلى قرابة ولا غيرها، قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا) [النساء:
135]، فأمر الله تعالى بالعدل والقسط في الأجانب والأقارب وأمر بالتسوية بين الجميع في حكم الله تعالى، فأبطل ما كان عليه أمر الجاهلية من معونة القريب والحليف على غيره ظالما كان أو مظلوما.
مطلب: في معنى قوله عليه السلام: " انصر أخاك ظالما أو مظلوما " وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " انصر أخاك ظالما أو مظلوما " قالوا: يا رسول الله هذا يعينه مظلوما فكيف يعينه ظالما؟ قال: " أن ترده عن الظلم فذلك معونة منك له ".
وكان في حلف الجاهلية أن يرثه الحليف دون أقربائه فنفى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " لا حلف في الاسلام " التحالف على النصرة والمحاماة من غير نظر في دين أو حكم وأمر باتباع أحكام الشريعة دون ما يعقده الحليف على نفسه، ونفى أيضا أن يكون الحليف أولى بالميراث من الأقارب، فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " لا حلف في الاسلام ". وأما قوله:
" وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الاسلام إلا شدة " فإنه يحتمل أن الاسلام قد زاد شدة وتغليظا في المنع منه وإبطاله، فكأنه قال: إذا لم يجز الحلف في الاسلام مع ما فيه من تناصر المسلمين وتعاونهم فحلف الجاهلية أبعد من ذلك.
قال أبو بكر: وعلي نحو ما ذكرنا من التوارث بالموالاة قال أصحابنا فيمن أوصى بجميع ماله ولا وارث له إنه جائز، وقد بينا ذلك فيما سلف، وذلك لأنه لما جاز له أن يجعل ميراثه لغيره بعقد الموالاة ويزويه أنه عن بيت المال، جاز له أن يجعله لمن شاء بعد موته بالوصية، إذ كانت الموالاة إنما تثبت بينهما بعقده وإيجابه وله أن ينتقل بولائه ما لم يعقل عنه، فأشبهت الوصية التي تثبت بقوله وإيجابه ومتى شاء رجع فيها، إلا أنها تخالف الوصية من وجه، وهو أنه وإن كان يأخذه بقوله فإنه يأخذه على وجه الميراث، ألا ترى أنه لو ترك الميت ذا رحم كان أولى بالميراث من مولى الموالاة؟ ولم يكن في الثلث بمنزلة من أوصى لرجل بماله فيجوز له منه الثلث بل لا يعطى شيئا إذا كان له وارث من قرابة أو ولاء عتاقة، فولاء الموالاة يشبه الوصية بالمال من وجه إذا لم يكن له وارث ويفارقها من وجه على نحو ما بينا، والله أعلم.
(٢٣٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 230 231 232 233 234 235 236 237 238 239 240 ... » »»