وإن أبرء الله منه الذمة وأهدر دمه ورفع الحرمة عن كل ما يعود إليه من مال وعرض لكنه تعالى إنما فعل به ذلك ليحيى حق ويبطل باطل فإذا رجى منه الخير منع ذلك من أي قصد سيئ يقصد به حتى يحصل اليأس من هدايته وانجائه.
فإذا استجار المشرك لينظر فيما تندب إليه الدعوة الحقة ويتبعها ان اتضحت له كان من الواجب اجارته حتى يسمع كلام الله ويرتفع عنه غشاوة الجهل وتتم عليه الحجة فإذا تمادى بعد ذلك في ضلاله وأصر في استكباره صار ممن ارتفع عنه الأمان وبرأت منه الذمة ووجب تطييب الأرض من قذارة وجوده بأية وسيلة أمكنت وأي طريق كان أقرب واسهل وهذا هو الذي يفيده قوله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) الآية بما يكتنف به من الآيات.
فمعنى الآية: ان طلب منك بعض هؤلاء المشركين الذين رفع عنهم الأمان أن تأمنه في جوارك ليحضر عندك ويكلمك فيما تدعو إليه من الحق الذي يتضمنه كلام الله فأجره حتى يسمع كلام الله ويرتفع عنه غشاوة الجهل ثم أبلغه مأمنة حتى يملك منك امنا تاما كاملا، وإنما شرع الله هذا الحكم وبذل لهم هذا الامن التام لانهم قوم جاهلون ولا بأس على جاهل إذا رجى منه الخير بقبول الحق لو وضح له.
وهذا غاية ما يمكن مراعاته من أصول الفضيلة وحفظ الكرامة ونشر الرحمة والرأفة وشرافة الانسانية اعتبره القرآن الكريم، وندب إليه الدين القويم.
وقد بان بما قدمناه اولا: ان الآية مخصصة لعموم قوله في الآية السابقة: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم). وثانيا: أن قوله: (حتى يسمع كلام الله) غاية للاستجارة والإجارة فيتغيا به الحكم، فالاستئمان إنما كان لسمع كلام الله واستفسار ما عند الرسول من مواد الرسالة فيتقدر الأمان الذي يعطاه المستجير المستأمن بقدره فإذا سمع من كلام الله ما يتبين به الرشد من الغى ويتميز به الهدى من الضلال انتهت مدة الاستجارة وحان أن يرد المستجير إلى مأمنه والمكان الخاص به الذي هو في أمن فيه، لا يهدده فيه سيوف المسلمين ليرجع إلى حاله الذي فارقه، ويختار لنفسه ما يشاء على حرية من المشية والإرادة.