الإنصاف فيما تضمنه الكشاف - ابن المنير الإسكندري - ج ٣ - الصفحة ١٧٧
قوله تعالى (ربى أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار) قال (العاقبة هي العاقبة المحمودة والدليل عليه قوله عز وجل - أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن - وقوله - وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار - والمراد دار الدنيا وعاقبتها أن يختم للإنسان فيها بالرحمة والرضوان وتتلقاه الملائكة بالبشرى عند الموت قال: فإن قلت:
العاقبة المحمودة والمذمومة كلاهما يصح أن يسمى عاقبة لأن الدنيا إما أن تكون خاتمتها خيرا أو شرا، فلم اختصت خاتمتها بالخير بهذه التسمية دون خاتمتها بالشر. قلت: لأن الله سبحانه وتعالى وضع الدنيا مجازا للآخرة وأراد لعباده فيها أن يعبدوه ولا يعملوا إلا الخير وما خلقهم إلا لأجله كما قال - وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون - فمن عمل في الدنيا على خلاف ذلك فقد حرف لأن عاقبتها الأصلية هي عاقبة الخير، وأما عاقبة الشر فلا اعتداد بها لأنها من تحريف الفجار) قال أحمد: وقد تقدم من قواعد أهل الحق ما يستضاء به في هذا المقام، والقدر الذي يحتاج إلى تجديده ههنا أن استدلاله على أن عاقبة الخير وعبادة الله تعالى هي المرادة له لا سواها بقوله تعالى - وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون - معارض بأمثاله في أدلة أهل السنة على عقائدهم مثل قوله - ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس - الآية، والمراد والله أعلم: ولقد جعلنا لعذاب جهنم خلقا كثيرا من الثقلين، ومن ذلك ما يروى عن الفاروق رضي الله عنه أنه قال: وإنكم آل المغيرة ذرء النار: أي خلقها. فلئن دلت آية الذاريات ظاهرا على أن الله تعالى إنما خلق الثقلين لتكون عاقبتهم الجنة جزاء وثوابا على عبادتهم له فقد دلت آية الأعراف على أنه خلق كثيرا من الثقلين لتكون عاقبتهم جهنم جزاء على كفرهم، وحينئذ يتعين الجمع بين الآيتين، وحمل عموم آية الذاريات على خصوص الآية الأخرى، وأن المراد: وما خلقت السعداء من الثقلين إلا لعبادتي جمعا بين الأدلة، فقد ثبت أن العاقبتين كلتيهما مرادة لله تعالى تعالى هذا بعد تظافر البراهين العقلية على ذلك، فوجه مجئ العاقبة المطلقة كثيرا وإرادة الخير بها أن الله تعالى هدى الناس إليها ووعدهم ما ورد في سلوك طريقها من النجاة والنعيم المقيم، ونهاهم عن ضدها وتوعدهم على سلوكها بأنواع العذاب الأليم، وركب فيهم عقولا ترشدهم إلى عاقبة الخير ومكنهم منها وأزاح عللهم ووفر دواعيهم، فكان من حقهم أن لا يعدلوا عن عاقبة الخير ولا يسلكوا غير طريقها وأن يتخذوها نصب أعينهم فأطلقت العاقبة، والمراد بها الخير تفريعا على ذلك، والله أعلم.
(١٧٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 167 168 169 172 173 177 178 179 180 181 182 ... » »»