الإنصاف فيما تضمنه الكشاف - ابن المنير الإسكندري - ج ٣ - الصفحة ١٥٢
قوله تعالى (لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون) قال فيه (إن قلت: كيف يكونون صادقين وقد جحدوا ما فعلوا فأتوا بالخبر على خلاف المخبر عنه؟ قلت: كأنهم اعتقدوا أنهم إذا بيتوا صالحا وبيتوا أهله وجمعوا بين البياتين جميعا لا أحدهما كانوا صادقين. وفى هذا دليل قاطع على أن الكذب قبيح عند الكفرة الذين لا يعرفون الشرع ونواهيه ولا يخطر ببالهم، ألا تراهم قصدوا قتل نبي الله ولم يرضوا لأنفسهم بأن يكونوا كاذبين حتى سووا الصدق حيلة يتصفون بها عن الكذب) قال أحمد: وحيلة الزمخشري لتصحيح قاعدة التحسين والتقبيح بالعقل أقرب من حيلتهم التي سماها الله تعالى مكرا، لأن غرضه من تمهيد حيلتهم أن يستشهد على صحة القاعدة المذكورة في موافقة قوم لوط عليها إذا استقبحوا الكذب بعقولهم لا بالشرع، وأنى يتم له ذلك أولهم وهم كاذبون صريح الكذب في قولهم - ما شهدنا مهلك أهله - وذلك أنهم فعلوا الأمرين، ومن فعل الأمرين فجحد فعل أحدهما لم يكن في قرينة مرية، وإن كانت الحيلة تتم لو فعلوا أمرا فادعى عليهم فعل أمرين فجحدوا المجموع ومن ثم لم تختلف العلماء في أن من حلف لا أضرب زيدا فضرب زيدا وعمرا كان حانثا، بخلاف الحالف لا أضرب زيدا وعمرا ولا آكل رغيفين فأكل أحدهما، فإن مثل هذا محل خلاف العلماء في الحنث وعدمه، فإذا تمهد أن هؤلاء كاذبون صراحة في قولهم " ما شهدنا مهلك أهله " وأنه لا حيلة لهم في الخلاص من الكذب فلا يخلو أمرهم أن يكونوا عقلاء فهم لا يتواطئون على اعتقاد الصدق بهذه الحيلة مع القطع بأنها ليست حيلة ولا شبهة لقرب جحدهم من الصدق، فيبطل ما قال الزمخشري لإثبات قاعدة دينه على زعمه، إذ قاعدة التحسين والتقبيح بالعقل من قواعد عقائد القدرية بموافقة قوم غير عقلاء على صحتها فحسبه ما رضى به لدينه والسلام.
(١٥٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 139 141 145 149 150 152 154 155 163 164 167 ... » »»