أمارة على صدقه المعلوم وجوده، ومن ثم قدم أمارة صدقها على أمارة صدقه في الذكر إزاحة للتهمة ووثوقا بأن الأمارة الثانية هي الواقعة فلا يضره تأخيرها وهذه اللطيفة بعينها والله أعلم، هي التي رعاها مؤمن آل فرعون في قوله - وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض لذي يعدكم - فقدم قسم الكذب على قسم الصدق إزاحة للتهمة التي خشى أن تتطرق إليه في حق موسى عليه السلام، ووثوقا بأن القسم الثاني وهو صدقه هو الواقع فلا يضره تأخيره في الذكر لهذه الفائدة، ومن ثم قال - بعض الذي يعدكم - ولم يقل كل ما يعدكم، تعريضا بأنه معهم عليه وأنه حريص على أن يبخسه حقه، وينحو هذا النحو تأخير يوسف عليه السلام لكشف وعاء أخيه، لأنه لو بدا به لفطنوا أنه هو الذي أمر بوضع السقاية فيه والله أعلم. فقصد هذا الشاهد الأمارة فقط والمناسبة فيها محققة، وأما الإمارة الأولى فليست مقصودة، وإنما ذكرها توطئة كما تقدم فلم يلتمس لها مناسبة جليلة صحيحة على اليقين، وإنما هي كالفرض والتقدير والله أعلم. وكأنه قال: إن كان قميصه قد من قبل فهي صادقة، لكنه يعلم انتفاء الأمارة المذكورة فعلق صدقها على محال وهو وجود قده من قبل حالة عدمه، فهذا التقرير هو الصواب والحق اللباب، والله الموفق. وأما إن كان الشاهد الحكيم الذي كان الملك يرجع إليه ويستشيره كما ورد في بعض التفاسير فلا بد من التماس المناسبة في الطرفين لأنها عهدة الحكيم، وأقرب وجه في المناسبة أن قد القميص من دبر دليل على إدباره عنها، وقده من قبل دليل على إقباله عليها بوجهه، والله أعلم.
قوله تعالى (إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم) قال (الضمير راجع إلى قولها - ما جزاء من أراد بأهلك سوء - الخ) قال أحمد: وفيما قاله هذا العالم نظر، لأن الآية التي ذكر فيها كيد الشيطان من قول الله تعالى غير محكى، وأما هذه الآية فكيد النساء فيها من قول العزيز، ولكن حكاه الله تعالى عنه فيحتمل حكايته عنه أن يكون تصحيحا له، ويحتمل أن لا يكون المراد تصويبه، وأيضا فإن كيد الشيطان مذكور في الآية مقابلا لكيد الله تعالى فكان ضعيفا بالنسبة إليه، ألا ترى أول الآية - الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا - وأيضا فإن الكيد الذي يتعاطاه النساء وغيرهن مستفاد من الشيطان بوسوسته وتسويله، وشواهد الشرع قائمة على ذلك، فلا يتصور حينئذ أن يكون كيدهن أعظم من كيده، والله أعلم.