والمعنى: احفظوا ألسنتكم وسددوا قولكم، فإنكم إذا فعلتم ذلك أعطاكم الله غاية مطلوبكم من تزكية أعمالكم، وتقبل حسناتكم، ومغفرة سيئاتكم.
ولما علق سبحانه طاعته وطاعة رسوله بالفوز العظيم أتبعه قوله: (إنا عرضنا الأمانة) وهو يريد بالأمانة: الطاعة، فعظم أمرها، والمعنى: أن هذه الأجرام العظام قد انقادت لأمر الله فلم تمتنع على مشيئته إيجادا وتكوينا وتسوية على أشكال متنوعة وصفات مختلفة، وأما الإنسان فلم يكن حاله فيما يصح منه من الطاعة ويليق به من الانقياد لأوامر الله ونواهيه، وهو حيوان عاقل صالح للتكليف مثل حال تلك الجمادات فيما يصح منها من الانقياد وعدم الامتناع.
والمراد بالأمانة: الطاعة؛ لأنها لازمة الأداء، وعرضها على الجمادات وإباؤها وإشفاقها مجازا، وأما حمل الأمانة فمن قولك: فلان حامل الأمانة ومحتمل لها، تريد لا يؤديها إلى صاحبها حتى يخرج من عهدتها، لأن الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها، فإذا أداها لم تبق راكبة له ولم يكن هو حاملا لها.
فالمعنى: (فأبين) أن لا يؤدينها وأبى الإنسان إلا أن يكون محتملا لها لا يؤديها، ثم وصفه بالظلم لكونه تاركا لأداء الأمانة، وبالجهل لإغفاله ما يسعده مع تمكنه من ذلك بأن يؤدي الأمانة.
واللام في (ليعذب) لام التعليل على طريق المجاز، لأن التعذيب نتيجة حمل الأمانة، كما أن التأديب في قولك: ضربته للتأديب نتيجة الضرب، أي: ليعذب الله حامل الأمانة (ويتوب الله) على غيره ممن لم يحملها، لأنه إذا تيب على الوافي كان ذلك نوعا من عذاب الغادر.
* * *