الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ٢٣٥
وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور * ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ
____________________
إن إيجاده حيا نعمة عليه، لأنه إيجاده حيا لما صح منه الانتفاع، وكل ما أدى إلى الانتفاع وصححه فهو نعمة.
فإن قلت: لم كان خلق العالم مقصودا به الاحسان؟ قلت: لأنه لا يخلقه إلا لغرض وإلا كان عبثا والعبث لا يجوز عليه، ولا يجوز أن يكون لغرض راجع إليه من نفع لأنه غنى غير محتاج إلى المنافع، فلم يبق إلا أن يكون لغرض يرجع إلى الحيوان وهو نفعه. فإن قلت: فما معنى الظاهرة والباطنة؟ قلت: الظاهرة كل ما يعلم بالمشاهدة، والباطنة ما لا يعلم إلا بدليل أو لا يعلم أصلا، فكم في بدن الانسان من نعمة لا يعلمها ولا يهتدى إلى العلم بها، وقد أكثروا في ذلك، فعن مجاهد: الظاهرة ظهور الاسلام والنصرة على الأعداء، والباطنة الامداد من الملائكة. وعن الحسن رضي الله عنه: الظاهرة الاسلام، والباطنة الستر. وعن الضحاك: الظاهرة حسن الصورة وامتداد القامة وتسوية الأعضاء، والباطنة المعرفة. وقيل الظاهرة البصر والسمع واللسان وسائر الجوارح الظاهرة، والباطنة القلب والعقل والفهم وما أشبه ذلك. ويروى في دعاء موسى عليه السلام: إلهي دلني على أخفى نعمتك على عبادك، فقال:
أخفى نعمتي عليهم النفس. ويروى إن أيسر ما يعذب به أهل النار الاخذ بالأنفاس. معناه (أ) يتبعونهم (ولو كان الشيطان يدعوهم) أي في حال دعاء الشيطان إياهم إلى العذاب. قرأ علي ابن أبي طالب رضي الله عنه " ومن يسلم " بالتشديد، يقال أسلم أمرك وسلم أمرك إلى الله. فإن قلت: ما له عدى بإلى وقد عدى باللام في قوله - بلى من أسلم وجهه لله -؟ قلت: معناه مع اللام أنه جعل وجهه وهو ذاته ونفسه سالما لله: أي خالصا له، ومعناه مع إلى أنه سلم إليه نفسه كما يسلم المتاع إلى الرجل إذا دفع إليه، والمراد التوكل عليه والتفويض إليه (فقد استمسك بالعروة الوثقى) من باب التمثيل، مثلت حال المتوكل بحال من أراد إن يتدلى من شاهق فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه (وإلى الله عاقبة الأمور) أي هي صائرة إليه. قرئ يحزنك ويحزنك من حزن وأحزن، والذي عليه الاستعمال المستفيض أحزنه ويحزنه، والمعنى: لا يهمنك كفر من كفر وكيده للإسلام، فإن الله عز وجل دافع كيده في نحره ومنتقم منه ومعاقبة على عمله (إن الله) يعلم ما في صدور عباده فيفعل بهم على حسبه (نمتعهم) زمانا (قليلا) بدنياهم (ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ) شبه إلزامهم التعذيب وإرهاقهم إياه باضطرار المضطر إلى الشئ الذي لا يقدر على الانفكاك منه، والغلظ مستعار عن الاجرام الغليظة، والمراد الشدة
(٢٣٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 230 231 232 233 234 235 236 237 238 239 240 ... » »»