الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ٢٣٤
* ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور * واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير * ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير
____________________
كانت مأمورا بها في سائر الأمم، وأن الصلاة تزل عظيمة الشأن سابقة القدم على ما سواها موصى بها في الأديان كلها. تصاعر وتصعر بالتشديد والتخفيف، يقال أصعر خده وصعره وصاعره كقولك أعلاه وعلاه وعالاه بمعنى، والصعر والصيد داء يصيب البعير يلوى منه عنقه، والمعنى: أقبل على الناس بوجهك تواضعا ولا تولهم شق وجهك وصفحته كما يفعل المتكبرون. أراد (ولا تمش) تمرح (مرحا) أو أوقع المصدر موقع الحال بمعنى مرحا، ويجوز أن يريد لا تمش لأجل المرح والاشر: أي لا يكن غرضك في المشي البطالة والاشر كما يمشي كثير من الناس لذلك لا لكفاية مهم ديني أو دنيوي، ونحوه قوله تعالى - ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس - تذهب بهاء المؤمن "، وأما قول عائشة في عمر رضي الله عنهما: كان إذا مشى أسرع، فإنما أرادت حتى يكون مشيا بين مشيين لا تدب دبيب المتماوتين ولا تثب وتثيب الشطار. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن "، وأما قول عائشة في عمر رضي الله عنهما: كان إذا مشى أسرع، فإنما أرادت السرعة المرتفعة عن دبيب المتماوت. وقرئ وأقصد بقطع الهمزة: أي سدد في مشيك من أقصد الرامي إذا سدد سهمه نحو الرمية (واغضض من صوتك) وانقص منه وأقصر، من قولك فلان يغض من فلان إذا قصر به ووضع منه (أنكر الأصوات) أوحشها من قولك شئ نكر: إذا أنكرته النفوس واستوحشت منه ونفرت. والحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة وكذلك نهاقه، ومن استفحاشهم لذكره مجردا وتفاديهم من اسمه أنهم يكنون عنه ويرغبون عن التصريح به فيقولون: الطويل الاذنين كما يكنى عن الأشياء المستقذرة، وقد عد في مساوى الآداب أن يجرى ذكر الحمار في مجلس قوم من أولى المروءة، ومن العرب من لا يركب الحمار استنكافا وإن بلغت منه الرجلة، فتشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير وتمثيل أصواتهم بالنهاق ثم إخلاء الكلام من لفظ التشبيه وإخراجه مخرج الاستعارة وأن جعلوا حميرا وصوتهم نهاقا مبالغة شديدة في الذم والتهجين وإفراط في التثبيط عن رفع الصوت والترغيب عنه وتنبيه على أنه من كراهة الله بمكان. فإن قلت: لم وحد صوت الحمير ولم يجمع؟ قلت: ليس المراد أن يذكر صوت كل واحد من آحاد هذا الجنس حتى يجمع، وإنما المراد أن كل جنس من الحيوان الناطق له صوت وأنكر أصوات هذه الأجناس صوت هذا الجنس فوجب توحيده (ما في السماوات) الشمس والقمر والنجوم والسحاب وغير ذلك (وما في الأرض) البحار والأنهار والمعادن والدواب وما لا يحصى (وأسبغ) قرئ بالسين والصاد وهكذا كل سين اجتمع معه الغين والخاء والقاف، تقول في سلخ صلخ وفي سقر صقر وفي سالغ صالغ. وقرئ نعمه ونعمة ونعمته. فإن قلت: ما النعمة؟ قلت: كل نفع قصد به الاحسان، والله تعالى خلق العالم كله نعمة لأنه إما حيوان وإما غير حيوان، فما ليس بحيوان نعمة على الحيوان، والحيوان نعمة من حيث
(٢٣٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 229 230 231 232 233 234 235 236 237 238 239 ... » »»