الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ٢١٥
ولكن أكثر الناس لا يعلمون * يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون * أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون.
____________________
أنهم كانوا أصحاب تجارات ومكاسب. وعن الحسن: بلغ من حذق أحدهم أنه يأخذ الدرهم فينقره بأصبعه فيعلم ردئ هو أم جيد. وقوله (يعلمون) بدل من قوله لا يعلمون. وفي هذا الابدال من النكتة أنه أبدله منه وجعله بحيث يقوم مقامه ويسد مسده ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا. وقوله (ظاهرا من الحياة الدنيا) يفيد أن للدنيا ظاهرا وباطنا، فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها والتنعم بملاذها، وباطنها وحقيقتها أنها مجاز إلى الآخرة يتزود منها إليها بالطاعة والأعمال الصالحة. وفي تنكير الظاهر أنهم لا يعلمون إلا ظاهرا واحدا من جملة الظواهر، وهم الثانية يجوز أن تكون مبتدأ، و (غافلون) خبره والجملة خبرهم الأولى وأن يكون تكريرا للأولى وأية كانت فذكرها مناد على أنهم معدن الغفلة عن الآخرة ومقرها ومعلمها وأنها منهم تنبع وإليهم ترجع (في أنفسهم) يحتمل أن يكون ظرفا كأنه قيل: أو لم يحدثوا التفكر في أنفسهم: أي في قلوبهم الفارغة من الفكر والتفكر لا يكون إلا في القلوب، ولكنه زيادة تصوير لحال المتفكرين كقولك اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك، وأن يكون صلة للتفكر كقولك تفكر في الامر وأجال فيه فكره، و (ما خلق) متعلق بالقول المحذوف معناه: أو لم يتفكروا فيقولوا هذا القول. وقيل معناه:
فيعلموا لان في الكلام دليلا عليه (إلا بالحق وأجل مسمى) أي ما خلقها باطلا وعبثا بغير غرض صحيح وحكمة بالغة ولا لتبقى خالدة، وإنما خلقها مقرونة بالحق مصحوبة بالحكمة وبتقدير أجل مسمى لابد لها من أن تنهي إليه وهو قيام الساعة ووقت الحساب والثواب والعقاب، ألا ترى إلى قوله تعالى - أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون - كيف سمى تركهم غير راجعين إليه عبثا. والباء في قوله إلا بالحق مثلها في قولك دخلت عليه بثياب السفر، واشترى الفرس بسرجه ولجامه، تريد اشتراه وهو ملتبس بالسرج واللجام غير منفك عنهما، وكذلك المعنى: ما خلقها الا وهي ملتبسة بالحق مقترنة به. فإن قلت: إذا جعلت في أنفسهم صلة للتفكر فما معناه؟
قلت: معناه أو لم يتفكروا في أنفسهم التي هي أقرب إليهم من غيرها من المخلوقات وهم أعلم وأخبر بأحوالها منهم؟
قلت: بأحوال ما عداها فيتدبروا ما أودعها الله ظاهرا وباطنا من غرائب الحكم الدالة على التدبير دون الاهمال، وأنه لابد لها من انتهاء إلى وقت يجازيها فيه الحكيم الذي دبر أمرها على الاحسان إحسانا وعلى الإساءة مثلها حتى يعلموا عند
(٢١٥)
مفاتيح البحث: الغفلة (1)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 210 211 212 213 214 215 216 217 218 219 220 ... » »»