الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ١٤٠
وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شئ إن هذا لهو الفضل المبين.
____________________
بعثوا من أجله. وفيها أنه يلزمهم لهذه النعمة الفاضلة لوازم. منها أن يحمدوا الله على ما أوتوه من فضلهم على غيرهم، وفيها التذكير بالتواضع، وأن يعتقد العالم أنه وإن فضل على كثير فقد فضل عليه مثلهم، وما أحسن قول عمر: كل الناس أفقه من عمر. ورث منه النبوة والملك دون سائر بنيه وكانوا تسعة عشر، وكان داود أكثر تعبدا وسليمان أقضى وأشكر لنعمة الله (وقال يا أيها الناس) تشهيرا لنعمة الله وتنويها بها واعترافا بمكانها ودعاء للناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير وغير ذلك مما أوتيه من عظائم الأمور. والمنطق: كل ما يصوت به من المفرد والمؤلف المفيد وغير المفيد، وقد ترجم يعقوب بن السكيت كتابه بإصلاح المنطق وما أصلح فيه إلا مفردات الكلم. وقالت العرب: نطقت الحمامة وكل صنف من الطير يتفاهم أصواته، والذي علمه سليمان من منطق الطير هو ما يفهم بعضه من بعض من معانيه وأغراضه. ويحكى أنه مر على بلبل في شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول؟ قالوا: الله ونبيه أعلم، قال: يقول: أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء، وصاحت فاختة فأخبر أنها تقول: ليت ذا الخلق لم يخلقوا، وصاح طاوس فقال: يقول كما تدين تدان، وصاح هدهد فقال: يقول استغفروا الله يا مذنبين، وصاح طيطوى فقال: يقول كل حي ميت وكل جديد بال وصاح خطاف فقال: يقول قدموا خيرا تجدوه، وصاحت رخمة فقال: تقول سبحان ربى الأعلى ملء سمائه وأرضه، وصاح قمري فأخبر أنه يقول: سبحان ربى الأعلى، وقال الحدأ يقول: كل شئ هالك إلا الله، والقطاة تقول: من سكت سلم، والببغاء تقول: ويل لمن الدنيا همه، والديك يقول: اذكروا الله يا غافلين، والنسر يقول: يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت، والعقاب يقول: في البعد من الناس أنس، والضفدع يقول: سبحان ربى القدوس، وأراد بقوله (من كل شئ) كثرة ما أوتى كما تقول فلان يقصده كل أحد ويعلم كل شئ تريد كثرة قصاده ورجوعه إلى غزارة في العلم واستكثار منه، ومثله قوله - وأوتيت من كل شئ - (إن هذا لهو الفضل المبين) قول وارد على سبيل الشكر والمحمدة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنا سيد ولد آدم ولا فخر " أي أقول هذا القول شكرا ولا أقوله فخرا. فإن قلت: كيف قال علمنا وأوتينا وهو من كلام المتكبرين قلت: فيه وجهان: أحدهما أن يريد نفسه وأباه، والثاني أن هذه النون يقال لها نون الواحد المطاع، وكان ملكا مطاعا فكلم أهل طاعته على صفته وحاله التي كان عليها، وليس التكبر من لوازم ذلك، وقد يتعلق بتجمل الملك وتفخمه وإظهار آيينه (1) وسياسته مصالح فيعود تكلف ذلك واجبا، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل نحوا من ذلك إذا وفد عليه وفد أو احتاج أن يرجح في عين عدو ألا ترى كيف أمر العباس رضي الله عنه بأن يحبس أبا سفيان حتى تمر عليه الكتائب. روى أن معسكره كان مائة فرسخ في مائة: خمسة وعشرون للجن، وخمسة وعشرون للإنس، وخمسة وعشرون للطير، وخمسة وعشرون للوحش، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة وسبعمائة سرية، وقد نسجت له الجن بساطا من ذهب وإبريسم فرسخا في فرسخ وكان يوضع منبره في وسطه وهو من ذهب فيقعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة، فيقعد الأنبياء

(1) آيينه لفظ أعجمي يستعمل في السياسة، ولهذا يضاف إلى الأكبر في الأكثر كذا بهامش الأصل.
(١٤٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 135 136 137 138 139 140 141 142 143 144 145 ... » »»