الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ١٣٩
فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين. وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين. ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين.
____________________
لها وهو في الحقيقة لمتأمليها لأنهم لابسوها وكانوا بسبب منها بنظرهم وتفكرهم فيها. ويجوز أن يراد بحقيقة الإبصار كل ناظر فيها من كافة أولى العقل، وأن يراد إبصار فرعون وملئه لقوله - واستيقنتها أنفسهم - أو جعلت كأنها تبصر فتهدى لأن العمى لا تقدر على الاهتداء فضلا أن تهدى غيرها، ومنه قولهم كلمة عيناء وكلمة عوراء لأن الكلمة الحسنة ترشد والسيئة تغوى، ونحوه قوله تعالى - لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر - فوصفها بالبصارة كما وصفها بالإبصار. وقرأ علي بن الحسين رضي الله عنهما وقتادة مبصرة وهى نحو مجبنة ومبخلة ومجفرة: أي مكانا يكثر فيه التبصر. الواو في (واستيقنتها) واو الحال وقد بعدها مضمرة. والعلو: الكبر والترفع عن الإيمان بما جاء به موسى كقوله تعالى - فاستكبروا وكانوا قوما عالين، فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون؟ - وقرئ عليا وعليا بالضم والكسر كما قرئ عتيا وعتيا. وفائدة ذكر الأنفس أنهم جحدوها بألسنتهم واستيقنوها في قلوبهم وضمائرهم، والاستيقان أبلغ من الإيقان، وقد قوبل بين المبصرة والمبين، وأي ظلم أفحش من ظلم من اعتقد واستيقن أنها آيات بينة واضحة جاءت من عند الله ثم كابر بتسميتها سحرا بينا مكشوفا لا شبهة فيه (علما) طائفة من العلم أو علما سنيا غزيرا. فإن قلت: أليس هذا موضع الفاء دون الواو كقولك أعطيته فشكر ومنعته فصبر؟ قلت: بلى ولكن عطفه بالواو إشعار بأن ما قالاه بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلم وشئ من مواجبه، فأضمر ذلك ثم عطف عليه التحميد كأنه قال: ولقد آتيناهما علما فعملا به وعلماه وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة (وقالا الحمد لله الذي فضلنا) والكثير المفضل عليه من لم يؤت علما أو من لم يؤت مثل علمهما، وفيه أنهما فضلا على كثير وفضل عليهما كثير. وفى الآية دليل على شرف العلم وأناقة محله وتقدم حملته وأهله، وأن نعمة العلم من أجل النعم وأجزل القسم، وأن من أوتيه فقد أوتى فضلا على كثير من عباد الله كما قال - والذين أوتوا العلم درجات - وما سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورثة الأنبياء إلا لمداناتهم لهم في الشرف والمنزة لأنهم القوام بما
(١٣٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 134 135 136 137 138 139 140 141 142 143 144 ... » »»