الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ٣٧٩
الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار. وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار. وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار. وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام. رب إنهن أضللن كثيرا من الناس
____________________
كقوله تعالى - وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى - فلا يفعله إلا المؤمنون الخلص، فبعثوا عليه ليأخذوا بدله في يوم لا بيع فيه ولا خلال: أي لا انتفاع فيه بمبايعة ولا بمخالة، ولا بما ينفقون فيه أموالهم من المعاوضات والمكارمات، وإنما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه الله. وقرئ لا بيع فيه ولا خلال بالرفع (الله) مبتدأ، و (الذي خلق) خبره و (من الثمرات) بيان للرزق: أي أخرج به رزقا هو ثمرات، ويجوز أن يكون من الثمرات مفعول أخرج و (رزقا) حالا من المفعول، أو نصبا على المصدر من أخرج لأنه في معنى رزق (بأمره) بقوله كن (دائبين) يدأبان في سيرهما وإنارتهما ودرئهما الظلمات وإصلاحهما ما يصلحان من الأرض والأبدان والنبات (وسخر لكم الليل والنهار) يتعاقبان خلفة لمعاشكم وسباتكم (وآتاكم من كل ما سألتموه) من للتبعيض:
أي آتاكم بعض جميع ما سألتموه نظرا في مصالحكم. وقرئ من كل بالتنوين، وما سألتموه نفي ومحله النصب على الحال: أي آتاكم من جميع ذلك غير سائليه، ويجوز أن تكون ما موصولة على وآتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه ولم تصلح أحوالكم ومعايشكم إلا به فكأنكم سألتموه أو طلبتموه بلسان الحال (لا تحصوها) لا تحصروها ولا تطيقوا عدها وبلوغ آخرها، هذا إذا أرادوا أن يعدوها على الإجمال، وأما التفصيل فلا يقدر عليه ولا يعلمه إلا الله (لظلوم) يظلم النعمة بإغفال شكرها (كفار) شديد الكفران لها، وقيل ظلوم في الشدة يشكو ويجزع، كفار في النعمة يجمع ويمنع، والإنسان للجنس فيتناول الإخبار بالظلم والكفران من يوجدان منه (هذا البلد) يعنى البلد الحرام زاده الله أمنا وكفاه كل باغ وظالم وأجاب فيه دعوة خليله إبراهيم عليه السلام (آمنا) ذا أمن. فإن قلت:
أي فرق بين قوله - اجعل هذا بلدا آمنا - وبين قوله - اجعل هذا البلد آمنا -؟ قلت: قد سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون، وفي الثاني أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن كأنه قال: هو بلد مخوف فاجعله آمنا (واجنبني) وقرئ وأجنبني، وفيه ثلاث لغات جنبه الشر وجنبه وأجنبه، فأهل الحجاز يقولون جنبني شره بالتشديد، وأهل نجد جنبني وأجنبني، والمعنى: ثبتنا وأدمنا على اجتناب عبادتها (وبني) أراد بنيه من صلبه. وسئل ابن عيينة: كيف عبدت العرب الأصنام؟ فقال ما عبد أحد من ولد إسماعيل صنما واحتج بقوله - واجنبني وبني - (أن نعبد الأصنام) إنما كانت أنصاب حجارة لكل قوم، قالوا البيت حجر، فحيثما نصبنا حجرا فهو بمنزلة البيت، فكانوا يدورون بذلك الحجر ويسمونه الدوار، فاستحب أن يقال طاف بالبيت ولا يقال دار بالبيت (إنهن أضللن كثيرا من الناس) فأعوذ بك أن تعصمني وبني من ذلك، وإنما جعلن مضلات لأن الناس ضلوا بسببهن فكأنهن أضللنهم كما تقول فتنتهم الدنيا وغرتهم: أي
(٣٧٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 374 375 376 377 378 379 380 381 382 383 384 ... » »»