جعل المحامد كلها مختصة به تعالى، وفساده ظاهر لأن اختصاص الجنس به تعالى مستلزم اختصاص أفراده أيضا، إذا لو وجد فرد منه لغيره لثبت الجنس له في ضمنه، وقيل مبنى على أن هذه المصادر نائبة مناب أفعالها سادة مسدها والأفعال لا تعد ودلالتها على الحقيقة إلى الاستغراق. ورد بأن ذلك لا ينافي قصد الاستغراق بمعونة المقام واقتضاء الحال. وقيل إنما اختاره بناء على أن الجنس هو المتبادر إلى الفهم الشائع في الاستعمال لا سيما في المصادر وعند خفاء قرائن الاستغراق، وهو أيضا مردود لأن المحلى بلام الجنس في المقامات الخطابية يتبادر منه الاستغراق وهو الشائع في الاستعمال سواء كان هناك مصدرا أو غيره، وأي مقام أولى بملاحظة الشمول والإحاطة من مقام تخصيص الحمد بالله تعالى تعظيما له وتمجيدا. فقرينة الاستغراق فيما نحن فيه كنار على علم، والحق أن السبب في الاختيار هو أن اختصاص الجنس مستفاد من جوهر الكلام ومستلزم لاختصاص جميع الأفراد، فلا حاجة في تأدية المقصود الذي هو ثبوت الحمد لله تعالى وانتفاؤه عن غيره إلى أن يلاحظ الشمول والإحاطة ويستعان فيه بأن خارج عن اللفظ، بل نقول على ما اختاره يكون اختصاص جميع الأفراد ثابتا بطريق برهاني أقوى من إثباته ابتداء.
فإن قلت: فكيف صح على مذهبه تخصيص جنس الحمد بالله تعالى؟ قلت: صح ذلك بناء على أن أفعالهم الحسنة التي يستحقون بها الحمد عندهم إنما هي بتمكين الله تعالى وإقداره عليها، فمن هذا الوجه يمكنه جعل الحمد راجعا إليه تعالى أيضا، وقد أشار إلى ذلك حيث قال في سورة التغابن: قدم الظرفان ليدل بتقديمهما على اختصاص الملك والحمد بالله تعالى، ثم قال: وأما حمد غيره فاعتداد بأن نعم الله تعالى جرت على يديه، ولا يرد على ذلك أفعالهم القبيحة التي يستحقون بها الذم أيضا بإقدار الله تعالى وتمكينه، فتكون المذمة أيضا راجعة إليه لما تبين في علم الكلام أن إقدار المختار على الأفعال الحسنة حسن وعلى القبيحة ليس بقبيح. وربما يجاب بأن يجعل الجنس في المقام الخطابي منصرفا إلى الكامل كأنه كل الحقيقة من باب - ذلك الكتاب - وحاتم الجواد. قيل ومن ههنا يظهر أن الحمل على الجنس دون الاستغراق محافظة على مذهبه، وفيه نظر لجواز الحمل على الاستغراق دون الجنس أيضا بتنزيل محامد غيره تعالى منزلة العدم بالقياس إلى محامده، فلا فرق بين اختصاص الجنس والاستغراق في أنهما ينافيان ظاهرا طريقة الاعتزال، وأن منافاتهما تندفع بأحد الوجهين المذكورين (قوله والذي جسرهما) قيل فيه جسارة لإشعاره بأن قراءتهما نشأت عن متابعة أحكام اللغة بلا رواية والسلف مبرؤون عنها، فإن قراءتهم مأخوذة بخصوصياتها عن روايات وصلت إليهم، لكن المصنف لا يتحاشى عن أمصال ذلك بناء على ما روى من الإذن بقراءة القرآن بسبع لغات، فلا يجب النقل في خصوصية كل قراءة، على أنه لا يبالي من إسناد القراءة المتواترة إلى صورة الكتابة في المصحف، فإسناد غيرها إلى قاعدة اللغة أولى (قوله وأشف القراءتين) أي أفضلهما، والشف من الأضداد يطلق على الزيادة والنقصان، والحركة الإعرابية مع طريانها أقوى من الحركة البنائية مع دوامها، لأن الإعرابية موضوعة علما لمعان مقصودة يتميز بها بعضها عن بعض، فالاخلال بها يؤدى إلى التباس