التبيان - الشيخ الطوسي - ج ٥ - الصفحة ٤٧٣
أي خفي الهدى ألا ترى أن الهدى ليس بذي جارحة تلحقها هذه الآفة، وقد قيل للسحاب: العمى لخفاء ما يخفيه، كما قيل له: الغمام ومن ذلك قول زهير:
ولكنني عن علم ما في غد عمي (1) ومن شدد اعتبر قراءة الأعمش فإنه قرأها فعماها عليهم. وروى ذلك الفراء عن أبي، والمعنيان متقاربان. قال الفراء: يقال عمى علي الخبر وعمي بمعنى واحد.
حكى الله تعالى عن نوح ما قاله لقومه جوابا عما قالوه له مما حكيناه فإنه " قال يا قوم أرأيتم ان كنت على بينة " أي برهان وحجة من المعجزة التي تشهد بصحة النبوة. وخصهم بهذا إذ هو طريق العلم بالحق لا ما التمسوا من اختلاف الخلق. وقوله " آتاني رحمة من عنده " يرد عليهم ما ادعوه من أنه ليس له عليهم فضل، فبين ذلك بالهداية إلى الحق من جهة البرهان المؤدي إلى العلم. وقوله " فعميت " يحتمل أمرين: أحدهما - خفيت علكيم، لأنكم لم تسلكوا الطريق المؤدي إليها. والاخر - أن يكون المعنى عميتم عنها، وأضاف العمى إلى البينة لما عموا عنها لضرب من المجاز، لان المعنى ظاهر في ذلك، كما يقال: أدخلت الخاتم في يدي والقلنسوة في رأسي، والمراد أدخلت يدي في الخاتم ورأسي في القلنسوة.
ومن قرأ بتشديد الميم وضم العين أضاف التعمية إلى غيرهم ممن صدهم عن النظر فيها وأغواهم في ذلك من الشياطين والمضلين عن الحق.
وقوله " أنلزمكموها وأنتم لها كارهون " أنضطركم إلى موجب البينة مع العلم مع كراهتكم لذلك فيبطل تكليفكم الاستدلال بالبينة المؤدية إلى المعرفة أي أضطركم إلى حال الضرورة. ووجه آخر - وهو أن يكون المراد إن الذي علي أن أدل بالبينة، وليس علي أن أضطركم إلى المعرفة.
وفي قوله " أنلزمكموها " ثلاث مضمرات ضمير المتكلم وضمير المخاطب وضمير الغائب، وهو أحسن ترتيب: بدأ بالمتكلم، لأنه أخص بالفعل ثم بالمخاطب

(1) اللسان (عمى)
(٤٧٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 468 469 470 471 472 473 474 475 476 477 478 ... » »»
الفهرست