فيض القدير شرح الجامع الصغير - المناوي - ج ٤ - الصفحة ٣٨٥
المحمود (ضياء) أي نور قوي تنكشف به الكربات وتنزاح به غياهب الظلمات فمن صبر على ما أصابه من مكروه علما بأنه من قضاء الله وقدره هان عليه ذلك وكفى عنه شره وادخر له أجره ومن اضطرب فيه وأكثر الجزع والهلع لم ينفعه تعبه ولا يدفع سعيه شيئا من قدر الله بل يتضاعف به همه وينحبط أجره والعبد بالصبر يخرج عن عهدة التكليف ويقوى على مخالفة الشيطان والنفس فيفوز في الدارين فوزا والضياء النور القوي والإضاءة فرط الإنارة وقال القونوي في توجيه هذه الفقرة: سره أن الصبر حبس النفس عن الشكوى وهو أمر مؤلم للنفس ولا ريب عند المحققين بالتجربة المكررة والعلم المحقق أن الآلام النفسانية تخمد وهج القوى الطبيعية وتنعش القوى الروحانية الموجبة لتنوير الباطن فلهذا جعل الصبر مثمرا للضياء الذي هو امتزاج النور بالظلمة بخلاف الحال في الصلاة التي قال إنها نور من أجل ما تقرر من سر المقابلة والمسامتة والتمثيل بالشمس والقمر فإنه ليس في ذات القمر ما يمزج بالشمس حتى يسمى الناتج بينهما ضياء ولذلك سمى تعالى القمر نورا دون الشمس المشبهة بالسراج لكونه معدودا من الشجرة المباركة المنفي عنها الجهات وأنها الحضرة الجامعة للأسماء والصفات والمذكور في شأن الصبر هو نور متحصل وناتج من امتزاج واقع من القوى الطبيعية والقوى والصفات الروحانية وغالبيته ومغلوبيته بينهما (والقرآن حجة لك) يدلك على النجاة إن عملت به (أو عليك) إن أعرضت عنه فيدل على سوء عاقبتك قال القونوي: الحجة البرهان الشاهد بصحة الدعوى كمن آمن به أنه كلام الله ومنزل من عنده ومظهر لعلمه من حيث اشتماله على الترجمة عن أحوال الخلق من حيث تعينها لديه سبحانه وترجمة عن صور شؤونه فيهم وعندهم وعن أحوال الخلق بعضهم مع بعض ورد تأويل ما لم يطلع عليه من أسراره إلى ربه وإنفاذ ما تضمنه من الأوامر والنواهي مع التأدب بآدابه والتخلق بأخلاقه دون تردد وارتياب وارتباط وتسلط بتأويل متحكم بنتيجة نظره القاصر كان حجة وشاهدا له ومن لم يكن كذلك كان حجة عليه (كل الناس) أي كل منهم يغدو (فبائع نفسه) أي فهو بائع نفسه والمبتدأ يكثر حذفه بعد فاء الجزاء والغدو ضد الرواح من الغدوة وهو ما بين الصبح والطلوع والبيع المبادلة والمراد هنا صرف الأنفاس في غرض ما يتوجه نحوه (فمعتقها أو موبقها) أي مهلكها وهو خبر آخر أو بدل من فبائع فإن عمل خيرا وجد خيرا فيكون معتقها من النار وإن عمل شرا استحق شرا فيكون موبقها أو المراد بالبيع الشراء بقرينة قوله معتقها إذ الإعتاق إنما يصح من المشتري فالمراد من ترك الدنيا وآثر الآخرة اشترى نفسه من ربه بالدنيا فيكون معتقها ومن ترك الآخرة وآثر الدنيا اشترى نفسه بالآخرة فيكون مهلكها والفاء في فبائع تفصيلية وفي معتقها سببية وقال القونوي: في هذا أسرار شريفة منها أن المصطفى صلى الله عليه وسلم نبه على سر هو كالتفسير لقوله تعالى * (ولكل وجهة هو موليها) * لأنه قال كل الناس يغدو وصدق لأن الاطلاع المحقق أفاد أنه ليس في الموجودات لأحد وقفة بل كل إنسان سائر إلى المرتبة التي قدر الحق أنها غاية من مراتب النقص والشقاء ومراتب السعادة التي هي الكمالات النسبية أو الكمال الحقيقي والفوز بالتجلي الذاتي الأبدي الذي لا حجاب بعده ولا مستقر للكمل دونه وهو الذي ذكره المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بقوله أسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم وقوله فبائع نفسه أي الذي يجعله في سيره إلى الغاية هو حاصل قوى روحه ونتيجة زمانه وأحواله وصفاته وأفعاله وتطوراته في نشأته فإن حصل على طائل وانتهى إلى كمال نسبي
(٣٨٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 380 381 382 383 384 385 386 387 388 389 390 ... » »»
الفهرست