ولكن قد ظهر لي أثناء دراستي لمشايخه، وتتبع النتف المنثورة - في سيرته وحياته، أن أحكم بشئ من الثقة: بأن أبى الدنيا لم يرحل خارج العراق إلا لأداء فيضة الحج، فكان معظم سماعه ببغداد، سواء من شيوخها النازلين بها، أو من الشيوخ الوافدين عليها من البلاد الأخرى، فتكون رحلاته ضمن حدود العراق كالبصرة والكوفة والموصل. وقد استنتجنا ذلك من روايته عن مشايخ بصريين وكوفيين وموصليين. ويؤكد صحته ما ذهبنا إليه: قول الإمام الذهبي: " أنه كان قليل الرحلة " (1). أي أنه لم ينف عنه الرحلة، وإنما وصفها بالقلة.
ويبدو أن المسوغ له في العزوف عن الرحلة، والعكوف على بغداد هو ذلك العدد الهائل من العلماء النازلين فيها، وفيهم سادات الأمة ثقة و عدالة، وضبطا وإتقانا، وعلوا في السند، مع وفرة في المرويات. كأحمد بن حنبل " 241 ه " وسعيد بن سليمان الواسطي سعدويه " ت 225 ه " وخالد بن خداش " ت 223 ه " وأحمد بن منبع " ت 244 ه " وعلي بن الجعد " ت 230 ه ويحيى بن معين " ت 233 ه ".
أضف إلى هذا أن بغداد كانت مركز الخلافة والحضارة والعلوم فكان العلماء يأتونها من كل مكان، وكتاب الخطيب البغدادي " تاريخ بغداد " خير شاهد على هذا. فاستثمر ابن أبي الدنيا هذه المزيلة لبلده، فكان يتتبع العلماء، الواردين عليها، فسمع من البخاري " ت 256 ه " والترمذي وصنيع ابن أبي الدنيا يتسق من آداب طالب الحديث. قال الإمام النووي: " ثم ليفرغ جهده لتحصيله - أي الحديث - بالسماع من شيوخ بلده إسنادا وعلما وشهرة ودينا وغيرة، فإذا فرغ فليرحل على عادة الحفاظ المبرزين " (2).