عمدة القاري - العيني - ج ١٦ - الصفحة ١٧
فهو أن الراوي ذكره معه كما سمعه معه، وقال الكرماني: متابعة الأنبياء موجبة للخلاص، كما أن في هذا التحاكم خلاص الكبرى من تلبسها بالباطل ووباله في الآخرة، وخلاص الصغرى من ألم فراق ولدها، وخلاص الابن من القتل، وتمام الحديث الأول هو قوله: فجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها فذلك مثلي ومثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار فتغلبوني وتقتحمون فيها. وأبو اليمان الحكم بن نافع، و عبد الرحمن هو ابن هرمز الأعرج.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الفرائض عن أبي اليمان أيضا. وأخرجه النسائي في القضاء عن عمران بن بكار وعن المغيرة بن عبد الرحمن.
ذكر معناه: قوله: (مثلي ومثل الناس)، بفتح الميم أي: صفتي وحالي وشأني في دعائهم إلى الإسلام المنقذ لهم من النار، ومثل ما تزين لهم أنفسهم من التمادي على الباطل كمثل رجل.. إلى آخره، وهذا من تمثيل الجملة بالجملة، والمراد من ضرب المثل الزيادة في الكشف والتنبيه للبيان. قوله: (استوقد نارا) أي: أوقد نارا، يؤيده ما وقع في رواية مسلم وأحمد من حديث جابر: مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا، وقال بعضهم: زيادة السين والتاء للإشارة إلى أنه عالج إيقادها وسعى في تحصيل آلاتها. قلت: معنى الاستفعال الطلب، ولكن قد يكون صريحا نحو: استكتبته، أي: طلبت منه الكتابة، وقد يكون تقديرا نحو استخرجت الوتد من الحائط، وليس فيه طلب صريح، واستوقد ههنا من هذا القبيل، والنار جوهر لطيف مضيء محرق حار والنور ضوؤها. قوله: (الفراش)، بفتح الفاء وتخفيف الراء وفي آخره شين معجمة، قال الخليل: يطير كالبعوض، وقيل: هو كصغار البق، وقال الفراء: هو غوغاء الجراد الذي يتفرش ويتراكم ويتهافت في النار. قوله: (وهذه الدواب)، عطف على الفراش، وهو جمع دابة، وأراد بها هنا مثل البرغش والبعوض والجندب ونحوها. قوله: (تقع في النار) خبر: جعل، لأن جعل، من أفعال المقاربة يعمل عمل: كان، في اقتضائه الاسم والخبر. وقال النووي: إنه صلى الله عليه وسلم شبه المخالفين له بالفراش وتساقطهم في نار الآخرة بتساقط الفراش في نار الدنيا مع حرصهم على الوقوع في ذلك ومنعه إياهم، والجامع بينهما اتباع الهوى وضعف التمييز وحرص كل من الطائفتين على هلاك نفسه، وقال ابن العربي: هذا مثل كثير المعاني، والمقصود: أن الخلق لا يأتون ما يجرهم إلى النار على قصد الهلكة، وإنما يأتونه على قصد المنفعة واتباع الشهوة، كما أن الفراش يقتحم النار لا ليهلك فيها بل لما يصحبه من الضياء، وقد قيل: إنها لا تبصر بحال وهو بعيد جدا. قوله: (وقال كانت امرأتان)، ليس فيه تصريح برفعه وهو مرفوع في نسخة شعيب عند الطبراني وغيره، وفي رواية النسائي من طريق علي بن عياش عن شعيب: حدثني أبو الزناد مما حدثه عبد الرحمن الأعرج مما ذكر أنه سمع أبا هريرة يحدث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: بينا امرأتان. قوله: (فتحاكما) وفي رواية الكشميهني: فتحاكمتا، وفي نسخة شعيب: فاختصما. قوله: (فقضى به للكبرى)، أي: للمرأة الكبرى، قيل: إن ذلك كان على سبيل الفتيا منهما لا الحكم، فلذلك ساغ لسليمان أن ينقضه، ورده القرطبي بأن فتيا النبي صلى الله عليه وسلم كحكمه وهما سواء في التنفيذ. فإن قلت: إذا كان الأمر كذلك، فكيف جاز لسليمان نقض حكم داود؟ قلت: إن كان حكمهما بالوحي فحكم سليمان ناسخ لحكم داود، وإن كان بالاجتهاد فاجتهاده كان أقوى لأنه بالحيلة اللطيفة أظهر ما في نفس الأمر، وقال الواقدي: إنما كان بينهما على سبيل المشاورة، فوضح لداود صحة رأي سليمان فأمضاه، وقيل: إن من شرع داود، عليه الصلاة والسلام، الحكم للكبرى من حيث هي كبرى. ورد بأن هذا غلط، لأن الكبرى والصغرى وصف طردي محض لا يوجب شيء من ذلك ترجيحا لأحد المتداعيين حتى يحكم له أو عليه، وكذلك الطول والقصر والسواد والبياض، وقال النووي: إن سليمان فعل ذلك تحيلا على إظهار الحق فلما أقرت به الصغرى عمل بإقرارها وإن كان الحكم قد نفذ، كما لو اعترف المحكوم له بعد الحكم أن الحق لخصمه، وقال ابن الجوزي: وإنما حكما بالاجتهاد إذ لو كان بنص لما ساغ خلافه، وهو دال على أن الفطنة والفهم موهبة من الله تعالى ولا التفات لقول من يقول: إن الإجتهاد إنما يسوغ عند فقد النص، والأنبياء، عليه الصلاة والسلام، لا يفقدون النص، فإنهم متمكنون من استطلاع الوحي وانتظاره، والفرق بينهم وبين غيرهم قيام العصمة بهم عن الخطأ وعن التقصير في الاجتهاد، بخلاف غيرهم. قوله: (لا تفعل يرحمك الله)، ووقع في رواية مسلم والإسماعيلي من طريق ورقاء عن أبي الزناد: لا يرحمك الله، قال القرطبي: ينبغي أن يكون على هذه
(١٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 ... » »»