الكافر يزيده الله ببكاء أهله عذابا، وإن الله هو أضحك وأبكى، ولا تزر وازرة وزر أخرى). قال ابن أبي مليكة: حدثني القاسم بن محمد، قال: لما بلغ عائشة، رضي الله تعالى عنها، قول عمر وابن عمر، قالت: إنكم لتحدثون عن غير كاذبين ولا مكذبين، ولكن السمع يخطئ، وفي رواية لمسلم عن هشام بن عروة عن أبيه، قال: ذكر عند عائشة قول ابن عمر: إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، فقالت: رحم الله أبا عبد الرحمن، سمع شيئا فلم يحفظ، إنما مرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة يهودي وهم يبكون عليه، فقال: إنكم تبكون وإنه ليعذب). وفي رواية أخرى له: (ذكر عند عائشة أن ابن عمر يرفع إلى النبي، صلى الله عليه وسلم: إن الميت يعذب في قبره ببكاء أهله، فقالت: وهل، إنما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إنه ليعذب بخطيئته أو بذنبه، وإن أهله ليبكون الآن). وذلك مثل قوله: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قام على القليب يوم بدر، وفيه قتلى بدر من المشركين، فقال لهم ما قال: إنهم ليستمعون ما أقول، وقد وهل إنما قال: إنهم ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق، ثم قرأت: * (إنك لا تسمع الموتى) * (النمل: 08). * (وما أنت بمسمع من في القبور) * (فاطر: 22). يقول: حين تبوأوا مقاعدهم من النار، وفي رواية له أيضا (عن عمرة بنت عبد الرحمن أنها سمعت عائشة، ذكر لها أن عبد الله بن عمر يقول: إن الميت ليعذب ببكاء الحي، فقالت عائشة، رضي الله تعالى عنها، يغفر الله لأبي عبد الرحمن، أما أنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ، إنما مر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على يهودية تبكي عليها، فقال: إنهم ليبكون وإنها لتعذب في قبرها).
فنتكلم أولا في وجوه الروايات المذكورة والاختلاف في هذا الباب ثم نفسر بقية ألفاظ الحديث، ولم أر أحدا من شراح هذا الكتاب بين تحقيق ما ورد في هذا الباب، بل أكثرهم ساق كلامه بلا ترتيب ولا اتباع متن الحديث، حتى إن الناظر فيه لا يقدر أن يقف فيه على كلام يشفي عليله، فنقول وبالله التوفيق: الكلام فيه على أقسام:
الأول: قول ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، على وجهين: أحدهما: (أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه) والآخر: أن الميت ليعذب ببكاء الحي)، واللفظان مرفوعان، فهل يقال: يحمل المطلق على المقيد ويكون عذابه ببكاء أهله عليه فقط؟ أو يكون الحكم للرواية العامة وأنه يعذب ببكاء الحي عليه، سواء كان من أهله أم لا؟ وأجيب: بأن الظاهر جريان حكم العموم، وأنه لا يختص ذلك بأهله، هذا كله بناء على قول من ذهب إلى أن الميت يعذب بالبكاء عليه، وإنما جعلنا الحكم أعم من ذلك، ولم نحمل المطلق على المقيد لأنه لا فرق في الحكم عند القائلين بعذاب الميت بالبكاء أن يكون الباكي عليه من أهله أو من غيرهم، بدليل النائحة التي ليست من أهل الميت، وما ورد في عموم النائحة من العذاب، بل أهله أعذر في البكاء عليه لقوله، صلى الله عليه وسلم، في حديث أبي هريرة الذي رواه النسائي وابن ماجة عنه، قال: (مات ميت في آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمع النساء يبكين عليه، فقام عمر ينهاهن ويطردهن، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: دعهن يا عمر، فإن العين دامعة والقلب مصاب والعهد قريب). وهذا التعليل الذي رخص لأجله في البكاء خاص بأهل الميت وقوله: (ببكاء أهله عليه) خرج مخرج الغالب الشائع، إذ المعروف أنه إنما يبكي على الميت أهله.
الثاني: هل لقوله: الحي، مفهوم حتى أنه لا يعذب ببكاء غير الحي؟ وهل يتصور البكاء من غير الحي ويكون احترازا بالحي عن الجمادات، لقوله عز وجل: * ( فما بكت عليهم السماء والأرض) * (الدخان: 92). فمفهومه أن السماء والأرض يقع منهما البكاء على غيرهم، وعلى هذا فيكون هذا بكاء على الميت ولا عذاب عليه بسببه إجماعا. وقد روى ابن مردويه في (تفسيره) من رواية يزيد الرقاشي، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (ما من مؤمن إلا وله بابان في السماء: باب يخرج منه رزقه، وباب يدخل فيه كلامه وعمله، فإذا مات فقداه وبكيا عليه، وتلا هذه الآية: * (فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين) * (الدخان: 92). وأما تصور البكاء من الميت فقد ورد في حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحدكم إذا بكى استعبر له صويحبة، والمراد بصويحبة الميت، ومعنى استعبر إما على بابه للطلب بمعنى طلب نزول العبرات، وإما بمعنى نزلت العبرات). وباب الاستفعال يرد على غير بابه أيضا.
الثالث: جاء في حديث ابن عمر: (الميت يعذب ببكاء أهله عليه) وفي بعض طرق حديثه في (مصنف ابن أبي شيبة): (من نيح عليه فإنه يعذب بما نيح عليه يوم القيامة)، فالرواية الأولى عامة في البكاء، وهذه الرواية خاصة في النياحة، فههنا يحمل المطلق على المقيد، فتكون الرواية التي فيها مطلق البكاء محمولة على البكاء بنوح، ويؤيد ذلك إجماع العلماء على حمل ذلك على البكاء بنوح، وليس المراد مجرد دمع العين، ومما يدل على أنه ليس المراد عموم البكاء. قوله: (إن الميت ليعذب ببعض بكاء أهله عليه)، فقيده ببعض البكاء، فحمل على ما فيه نياحة، جمعا بين