عمدة القاري - العيني - ج ٣ - الصفحة ٩٥
إلى خمسة أمداد. وقال ابن سيده: الصاع مكيال لأهل المدينة، يأخذ أربعة أمداد، يذكر ويؤنث، وجمعه: أصوع وأصواع وصيعان وصواع، كالصاع. وقال ابن الأثير: الصاع مكيال يسع أربعة أمداد، والمد مختلف فيه، وفي (الجامع): تصغيره صويع، فيمن ذكر، وصويعة فيمن أنث، وجمع التذكير أصواع وأصوع في التذكير، وأصوع في التأنيث. وفي (الجمهرة): أصوع في أذني العدد. وقال ابن بري في (تلخيص اغلاط الفقهاء): الصواب في جمع صاع أصوع. وقال ابن قرقول: جاء في أكثر الروايات: آصع. قلت: أصل الصاع صوع، قلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وفيه ثلاث لغات: صاع، وصوع على الأصل، وصواع؛ والجمع: أصوع، وإن شئت أبدلت من الواو المضمومة همزة. قوله: (ويتوضأ بالمد)، وهو ربع الصاع، ويجمع على أمداد ومدد ومداد، ويأتي الخلاف فيه الآن، وقد مر بعضه عن قريب.
بيان استنباط الحكم يستنبط منه حكمان.
الأول: أنه، عليه الصلاة والسلام، كان يغتسل بالصاع فيقتصر عليه وربما يزيد عليه إلى خمسة أمداد، فدل ذلك أن ماء الغسل غير مقدر بل يكفي فيه القليل والكثير إذا أسبغ وعم، ولهذا قال الشافعي: وقد يرفق الفقيه بالقليل فيكفي، ويخرق الأخرق فلا يكفي، ولكن المستحب أن لا ينقص في الغسل والوضوء عما ذكر في الحديث. وقال بعضهم: فكأن أنسا لم يطلع على أنه صلى الله عليه وسلم لم يستعمل في الغسل أكثر من ذلك، لأنه جعلها النهاية. وسيأتي حديث عائشة رضي الله تعالى عنه أنها كانت تغتسل هي والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد وهو: الفرق، وروى مسلم من حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، أيضا أنه صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من إناء يسع ثلاثة أمداد. قلت: أنس، رضي الله عنه، لم يجعل ما ذكره نهاية لا يتجاوز عنها، ولا ينقص عنها وإنما حكى ما شاهده، والحال تختلف بقدر اختلاف الحاجة، وحديث الفرق لا يدل على أن عائشة، رضي الله تعالى عنها، والنبي صلى الله عليه وسلم كانا يغتسلان بجميع ما في الفرق. وغاية ما في الباب أنه يدل أنهما يغتسلان من إناء واحد يسمى: فرقا، وكونهما يغتسلان منه لا يستلزم استعمال جميع ما فيه من الماء، وكذلك الكلام في: ثلاثة أمداد. وقال هذا القائل أيضا: وفيه رد على من قدر الوضوء والغسل بما ذكر في حديث الباب: كابن شعبان من المالكية، وكذا من قال به من الحنفية مع مخالفتهم له في مقدار المد والصاع. قلت: لا رد فيه على من قال به من الحنفية، لأنه لم يقل ذلك بطريق الوجوب، كما قال ابن شعبان بطريق الوجوب، فإنه قال: لا يجزئ أقل من ذلك. وأما من قال به من الحنفية فهو محمد بن الحسن، فإنه روي عنه أنه قال: إن المغتسل لا يمكن أن يعم جسده بأقل من مدر، وهذا يختلف باختلاف أجساد الأشخاص، ولهذا جعل الشيخ عز الدين بن عبد السلام للمتوضىء والمغتسل ثلاث أحوال. أحدها: أن يكون معتدل الخلق كاعتدال خلقه، عليه الصلاة والسلام، فيقتدي به في اجتناب النقص عن المد والصاع. الثانية: أن يكون ضئيلا ونحيف الخلق بحيث لا يعادل جسده جسده، صلى الله عليه وسلم، فيستحب له أن يستعمل من الماء ما يكون نسبته إلى جسده كنسبة المد والصاع إلى جسده، صلى الله عليه وسلم. الثانية: أن يكون متفاحش الخلق طولا وعرضا وعظم البطن وثخانة الأعضاء، فيستحب أن لا ينقص عن مقدار يكون بالنسبة إلى بدنه كنسبة المد والصاع إلى بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم إعلم أن الروايات مختلفة في هذا الباب، ففي رواية أبي داود من حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها: (أن النبي، عليه الصلاة والسلام، كان يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد). ومن حديث جابر كذلك، ومن حديث أم عمارة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فأتى بإناء فيه ماء قدر ثلثي المد). وفي روايته عن أنس: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ بإناء يسع رطلين ويغتسل الصاع). وفي رواية ابن خزيمة وابن حبان في (صحيحيهما)، والحاكم في (مستدركه) من حديث عبد الله بن زيد، رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بثلثي مد من ماء فتوضأ، فجعل يدلك ذراعيه). وقال الحاكم: هذا حديث حسن صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. وقال الثوري: حديث أم عمارة حسن. وفي رواية مسلم من حديث عائشة، رضي الله عنها: (كانت تغتسل هي والنبي صلى الله عليه وسلم في إناء واحد يسع ثلاثة أمداد). وفي رواية: (من إناء واحد تختلف أيدينا فيه) وفي رواية (فدعت بأناء قدر الصاع فاغتسلت فيه) وفي آخره كانت تغتسل بخمسة مكاكيك وتتوضأ بمكوك وفي أخرى: (تغسله صلى الله عليه وسلم بالصاع وتوضئه بالمد). وفي أخرى: (يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد)، وفي رواية البخاري: (بنحو من صاع)، وفي لفظ: (من قدح يقال له: الفرق)، وعند النسائي في كتاب (التمييز): نحو ثمانية أرطال). وفي (مسند) أحمد بن منيع: (حزرته ثمانية أو تسعة أو عشرة أرطال).
(٩٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 ... » »»