عمدة القاري - العيني - ج ٣ - الصفحة ٨
كبيرة، وأما الذي ليس له إلا صغائر فله كبائر أيضا، لأن ما فوق الصغيرة التي ليس تحتها صغيرة، فهي كبائر. فافهم.
بيان استنباط الأحكام الأول: أن هذا الحديث أصل عظيم في صفة الوضوء، والأصل في الواجب غسل الأعضاء مرة مرة، والزيادة عليها سنة، لأن الأحاديث الصحيحة وردت بالغسل: ثلاثا ثلاثا ومرة مرة ومرتين مرتين، وبعض الأعضاء ثلاثا ثلاثا وبعضها مرتين مرتين وبعضها مرة مرة، فالاختلاف على هذه الصفة دليل الجواز في الكل، فإن الثلاث هي الكمال، والواحدة تجزىء. قد مر الكلام فيه مستوفى. وصفة الوضوء على وجوه.
الأول: فيه غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء، ولو لم يكن عقيب النوم، وهذا مستحب بلا خلاف، وفيه الإفراغ على اليدين معا. وجاء في رواية أخرى: (افرغ بيده اليمنى على اليسرى ثم غسلهما) وهو قدر مشترك بين غسلهما معا مجموعتين أو متفرقتين، والفقهاء اختلفوا في أيهما أفضل.
الثاني: في المضمضة والاستنشاق، وهما سنتان في الوضوء، وكان عطاء والزهري وابن أبي ليلى وحماد وإسحاق يقولون: يعيد إذا ترك المضمضة في الوضوء، وقال الحسن وعطاء في آخر قوليه والزهري وقتادة وربيعة ويحيى الأنصاري ومالك والأوزاعي والشافعي: لا يعيد. وقال احمد: يعيد في الاستنشاق خاصة ولا يعيد من ترك المضمضة، وبه قال أبو عبيد وأبو ثور. وقال أبو حنيفة والثوري: يعيد إن تركها في الجنابة ولا يعيد في الوضوء. وقال ابن المنذر: وبقول أحمد أقول. وقال ابن حزم: هذا هو الحق لأن المضمضة ليست فرضا، وإن تركها فوضوءه تام وصلاته تامة، عمدا تركها أو نسيانا، لأنه لم يصح فيها عن النبي، عليه الصلاة والسلام أمر، إنما هي فعل فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفعاله ليست فرضا وإنما فيها الائتساء به، عليه الصلاة والسلام. قلت: وفيه نظر لأن الأمر بالمضمضة صحيح على شرطه، أخرجه أبو داود بسند احتج ابن حزم برجاله وبأصل الحديث، ولفظ أبي داود من حديث عاصم بن لقيط بن صبرة عن أبيه مرفوعا: (إذا توضأت فمضمض). وأخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وخرجه ابن خزيمة وابن حبان وابن الجارود في (المنتقى). وقال البغوي في (شرح السنة): صحيح، وصحح أسناده الطبري في كتابه (تهذيب الآثار) والدولابي في جمعه، وابن القطان في آخرين. وقال الحاكم: صحيح ولم يخرجاه وهو في جملة ما قلنا إنهما أعرضا عن الصحابي الذي لا يروى عنه غير الواحد، وقد احتجا جميعا ببعض هذا الحديث وله شاهد من حديث ابن عباس. انتهى كلامه. وفيه نظر، لأنهما لم يشترطا ما ذكره في كتابيهما أحاديث جماعة بهذه المثابة، منهم: المسيب بن حزم وأبو قيس بن أبي حازم ومرادس وربيعة بن كعب الأسلمي. ولئن سلمنا قوله، كان لقيط هذا خارجا عما ذكره لرواية جماعة عنه منهم ابن أخيه وكيع بن حدس وعمرو بن أوس يرفعه. وأما حديث ابن عباس الذي أشار إليه فذكره أبو نعيم الأصبهاني من حديث الربيع بن بدر عن ابن جريج عن عطاء عنه يرفعه: (مضمضوا واستنشقو). وقال: حديث غريب من حديث ابن جريج، ولا أعلم رواه عنه غير الربيع. وأخرج البيهقي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله، عليه الصلاة والسلام، أمر بالمضمضة والاستنشاق). وصحح أسناده، وأخرج أيضا من حديث ابن جريج عن سليمان ابن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة، رضي الله عنها، ترفعه: (المضمضة والاستنشاق من الوضوء الذي لا بد منه). وقال الدارقطني: الصواب: ابن جريج عن سليمان مرسلا، وفي لفظ عنده مرفوعا: (من توضأ فليمضمض)، وضعفه. والمضمضة مقدمة على الاستنشاق، قال النووي: وهل هو تقديم استحباب أو اشتراط: وجهان، وفي كيفيتهما خمسة أوجه. الأول: أن يتمضمض ويستنشق بثلاث غرفات، وهذا في الصحيح وغيره. الثاني: أن يجمع بينهما بغرفة واحدة يتمضمض منها ثلاثا ويستنشق منها ثلاثا، رواه علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو عند ابن خزيمة وابن حبان، ورواه أيضا وائل ابن حجر بسند فيه ضعف، وهو عند البزار. الثالث: أن يجمع بينهما بغرفة، وهو أن يتمضمض منها ثم يستنشق ثم الثانية كذلك والثالثة، رواه عبد الله بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم عند الترمذي، وقال: حسن غريب وخرجه أيضا من حديث ابن عباس وقال: وهو أحسن شيء في الباب وأصح. الرابع: أن يفصل بينهما بغرفتين يتمضمض بثلاث ويستنشق بثلاث، وهو الذي اختاره أصحابنا، رحمهم الله، واستدلوا على ذلك بما رواه الترمذي: حدثنا هناد وقتيبة قالا: ثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن أبي حية قال: (رأيت عليا، رضي الله تعالى عنه، توضأ فغسل كفيه حتى أنقاهما ثم مضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا
(٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 ... » »»