عمدة القاري - العيني - ج ٣ - الصفحة ١٨
بيان المعاني قوله: (إذا توضأ) معناه: إذا أراد أن يتوضأ. قوله: (وإذا استيقظ) عطف على قوله: (إذا توضأ أحدكم) قال بعضهم: واقتضى سياقه أنه حديث واحد وليس هو كذلك في (الموطأ)، وقد أخرجه أبو نعيم في (المستخرج من الموطأ) رواية عبد الله بن يوسف شيخ البخاري مفرقا، وكذا هو في (موطأ يحيى بن بكير) وغيره، وكذا فرقه الإسماعيلي من حديث مالك، وكذا أخرج مسلم الحديث الأول من طريق ابن عيينة عن أبي الزناد، والثاني من طريق المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد. انتهى. قلت: لا يلزم ذلك كله أن لا يكون الحديث واحدا، وقد يجوز أن يروي حديث واحد مقطعا من طرق مختلفة، فمثل ذلك، وإن كان حديثين أو أكثر بحسب الظاهر، فهو في نفس الأمر حديث واحد، والظاهر مع سياق البخاري في كونه حديثا واحدا. قوله: (قبل أن يدخلها)، وفي رواية مسلم وابن خزيمة وغيرهما من طرق مختلفة: (فلا يغمس يده فلا في الإناء حتى يغسلها)، ووقع في رواية البزار: (فلا يعمسن)، بنون التأكيدة المشددة، فإنه رواه من حديث هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة مرفوعا: (إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في طهوره حتى يفرغ عليها...) الحديث ولم يقع هذا إلا في رواية البزار، والرواية التي فيها: الغمس، أبين في المراد من الروايات التي فيها: الإدخال، لأن مطلق الإدخال لا يترتب عليه الكراهة، كمن أدخل يده في إناء واسع فاغترف منه بإناء صغير من غير أن تلامس يده المساء. قوله: (فإن أحدكم) قال البيضاوي: فيه إيماء إلى أن الباعث على الأمر بذلك احتمال النجاسة، لأن الشارع إذا ذكر حكما وعقبه بعلة دل على أن ثبوت الحكم لأجلها، ومثله قوله في حديث المحرم الذي سقط فمات: (فإنه يبعث ملبيا)، بعد نهيهم عن تطييبه فنبه على علة النهي وهي كونه محرما. قوله: (أين باتت يده) أي: من جسده. وقال النووي: قال الشافعي: معنى (لا يدري أين باتت يده) أن أهل الحجار كانوا يستنجون بالحجارة وبلادهم حارة، فإذا نام أحدهم عرق، فر يأمن من النائم أن تطوف يده على ذلك الموضع النجس أو على بثرة أو على قملة أو قذر وغير ذلك. وقال الباجي: ما قاله يستلزم الأمر بغسل ثوب النائم لجواز ذلك عليه، وأجيب عنه: بأنه محمول على ما إذا كان العرق في اليددون المحل. قلت: فيه نظر، لأن اليد إذا عرقت فالمحل بطريق الأولى على ما لا يخفي فلا وجه حينئذ لاختصاص اليد به. وقول من قال: إنه مختص بالمحل ينافيه ما رواه ابن خزيمة وغيره من طريق محمد بن الوليد عن محمد بن جعفر عن شعبة عن خالد الحذاء عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة في هذا الحديث، قال في آخره: (أين باتت يده منه)، وأصله في مسلم: دون: قوله: (منه). قال الدارقطني: تفرد بها شعبة. وقال البيهقي: تفرد بها محمد بن الوليد. قلت: فيه نظر لأن ابن منده ذكر هذا اللفظ أيضا من حديث خالد الحذاء عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة، قال: وكذلك رواه محمد بن الوليد عن غندر، ومحمد بن يحيى عن عبد الصمد بن عبد الوارث عن شعبة عن خالد. قال: وما أراهما بمحفوظين بهذه الزيادة إلا أن رواة هذه الزيادة ثقات مقبولون، وبنحوه قاله الدارقطني.
بيان استنباط الأحكام: الأول: استدل به أصحابنا أن الإناء يغسل من ولوغ الكلب ثلاث مرات، وذلك لأن النبي، عليه الصلاة والسلام، أمر القائم من الليل بإفراغ الماء على يده مرتين أو ثلاثا، وذلك لأنهم كانوا يتغوطون ويبولون ولا يستنجون بالماء، وربما كانت أيديهم تصيب المواضع النجسة فتتنجس، فإذا كانت الطهارة تحصل بهذا العدد من البول والغائط وهما أغلظ النجاسات، وكان أولى وأحرى أن تحصل مما هو دونهما من النجاسات. الثاني: استدل به أصحابنا على أن غسل اليدين قبل الشروع في الوضوء سنة، بيان ذلك أن أول الحديث يقتضي وجوب الغسل للنهي عن إدخال اليد في الإناء قبل الغسل، وآخره يقتضي استحباب الغسل للتعليل بقوله: (فإنه لا يدري اين باتت يده) يعني: في مكان طاهر من بدنه أو نجس، فلما انتفى الوجوب لمانع في التعليل المنصوص ثبتت السنية لأنها دون الوجوب، وقال الخطابي: الأمر فيه أمر استحباب لا أمر إيجاب، وذلك لأنه قد علقه بالشك، والأمر المضمن بالشك لا يكون واجبا، وأصل الماء الطهارة وكذلك بدن الانسان، وإذا ثبتت الطهارة يقينا لم تزل بأمر مشكوك فيه. قلت: مذهب عامة أهل العلم أن ذلك على الاستحباب، وله أن يغمس يده في الإناء قبل غسلها، وأن الماء طاهر ما لم يتيقن نجاسة يده، وممن روي عنه ذلك عبيدة وابن سيرين وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وسالم والبراء بن عازب والأعمش فيما ذكره البخاري، وقال ابن المنذر: قال أحمد: إذا انتبه من النوم فأدخل يده في الإناء قبل الغسل أعجب إلى أن يريق ذلك الماء إذا كان من نوم الليل، ولا يهراق في قول
(١٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 ... » »»