الاستطابة والاستجمار والاستنجاء لتطهير محل الغائط والبول، والاستجمار مختص بالمسح بالأحجار، والاستطابة والاستنجاء يكونان بالماء وبالأحجار. وقال ابن حبيب: وكان ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، يتأول الاستجمار هنا على إجمار الثياب بالمجمر، ونحن نستحب الوتر في الوجهين جميعا. يقال في هذا تجمر واستجمر فيأخذ ثلاث قطع من الطيب أو يتطيب مرة واحدة، لما بعد الأولى، وحكي عن مالك أيضا، والأظهر الأول، ويقال: إنما سمي به التمسح بالجمار التي هي الأحجار الصغار لأنه يطيب المحل كما يطيبه الاستجمار بالبخور، ومنه سميت جمار الحج وهي: الحصيات التي يرمي بها. قوله: (فليوتر) أي: فليجعل الحجارة التي يستنجى بها وترا، إما واحدة، أو ثلاثا أو خمسا، وقال الكرماني: المراد بالإيتار أن يكون عدة المسحات ثلاثا أو خمسا أو فوق ذلك من الأوتار. قلت: لم يذكر الواحد، مع أنه يطلق عليه الإيتار هروبا عن أن لا يكون الحديث حجة عليهم، على ما نذكره عن قريب إن شاء الله تعالى.
بيان استنباط الاحكام الأول: فيه مطلوبية الاستنثار في الوضوء والإجماع قائم على عدم وجوبه، والمستحب أن يستنثر بيده اليسرى، وقد بوب عليه النسائي، ويكره أن يكون بغير يده، حكي ذلك عن مالك أيضا لكونه يشبه فعل الدابة، وقيل: لا يكره. فان قلت: السنة في الاستنثار ثلاث مثل الاستنشاق أم لا؟ قلت: قد ورد في رواية الحميدي في (مسنده) عن سفيان عن أبي الزناد، ولفظه: (إذا استنثر فليستنثر وترا). وقوله: (وترا) يشمل الواحد والثلاث وما فوقهما من الأوتار، وورد في رواية البخاري: (فليستنثر ثلاثا). كما ذكرناها، ويمكن أن تكون هذه الرواية مبينة لتلك الرواية، فتكون السنة فيه أن تكون ثلاثا كالاستنشاق فافهم. الثاني: من فسر الاستنثار بالاستنشاق ادعى أن الاستنشاق واجب، وقال النووي: فيه دلالة لمذهب من يقول: إن الاستنشاق واجب لمطلق الأمر، ومن لم يوجبه يحمل الأمر على الندب بدليل أن المأمور به حقيقة، وهو: الاستنثار ليس بواجب بالاتفاق. وقال ابن بطال: الاستنثار هو دفع الماء الحاصل في الأنف بالاستنشاق، ولم يذكر ههنا الاستنشاق لأن ذكره الاستنثار دليل عليه إذ لا يكون إلا منه، وقد أوجب بعض العلماء الاستنثار بظاهر الحديث، وحمل أكثرهم على الندب، واستدلوا بأن غسله باطن الوجه غير مأخوذ علينا في الوضوء: قلت: الذين أوجبوا الاستنشاق هم: أحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وابن المنذر، واحتجوا بظاهر الأمر، ولكنه للندب عند الجمهور بدليل ما رواه الترمذي محسنا، والحاكم مصححا من قوله: صلى الله عليه وسلم للأعرابي: (توضأ كما أمرك الله تعالى)، فأحاله على الآية وليس فيها ذكر الإستنشاق. وقال بعضهم: وأجيب: بأنه يحتمل أن يراد بالأمر ما هو أعم من آية الوضوء، فقد أمر الله تعالى باتباع نبينه، ولم يحك أحد ممن وصف وضوءه على الاستقصاء أنه ترك الاستنشاق، بل ولا المضمضة، وهذا يرد على من لم يوجب المضمضة أيضا، وقد ثبت الأمر بها أيضا في (سنن أبي داود) بإسناد صحيح. قلت: القرنية الحالية والمقالية مناطقة صريحا بأن المراد من قوله: (كما أمرك الله تعالى) الأمر المذكور في آية الوضوء، وليس فيها ما يدل على وجوب الاستنشاق ولا على المضمضة، فإن استدل على هذا القائل على وجوبها بمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليهما من غير ترك فإنه يلزمه أن يقول بوجوب التسمية أيضا، لأنه لم ينقل أنه ترك التسمية فيه، ومع هذا فهو سنة أو مستحبة عند إمام هذا القائل. الثالث: فيه مطلوبية الإيتار في الاستنجاء. قال الكرماني: مذهبنا أن استيفاء الثلاث واجب، فإن حصل الإبقاء به فلا زيادة إلا وجبت الزيادة، ثم إن حصل بوتر فلا زيادة، وإن حصل بشفع استحب الإيتار. وقال الخطابي: فيه دليل على وجوب عدد الثلاث، إذ معلوم أنه لم يرد به الوتر الذي هو وأحد لأنه زيادة صفة على الاسم، والاسم لا يحصل بأقل من واحد، فعلم أنه قصد به ما زاد على الواحد وأدناه الثلاث. قلت: ظاهر الحديث حجة لأبي حنيفة وأصحابه فيما ذهبوا إليه من أن الاستنجاء ليس فيه عدد مسنون، لأن الإيتار يقع على الواحد كما يقع على الثلاث والحديث دال على الايتار فقط فإن قلت تعيين الثلاث من نهيه عليه الصلاة والسلام عن أن يستنجي بأقل من ثلاث أحجار. قلت: لما دل حديث أبي هريرة (من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج) على عدم اشتراط العيين، حمل هذا على أن النهي فيه كان لأجل الاحتياط، لأن التطهير غالبا إنما يحصل بالثلاث، ونحن أيضا نقول: إذا تحقق شخص أنه لا يطهر إلا بالثلاث يتعين عليه الثلاث، والتعيين ليس لأجل التوفية فيه، وإنما هو للانقاء الحاصل فيه حتى إذا احتاج إلى رابع وخامس وهلم جرا يتعين عليه ذلك. فافهم.