يدل على أنهما كانا مسلمين، لأن البقيع مقبرة المسلمين، والخطاب لهم. فإن قلت: لم لا يجوز أن يكونا كافرين، كما ذهب إليه أبو موسى، وكان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لهما من خصائصه كما في قصة أبي طالب؟ قلت: لو كان ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم لبينه، على أنا نقول: إن هذه القضية متعددة كما ذكرنا، فيجوز تعدد حال المقبورين. فإن قلت: ذكر البول والنميمة ينافي ذلك، لأن الكافر، وإن عذب على أحكام الاسلام، فإنه يعذب مع ذلك على الكفر بلا خلاف. قلت:
لم يبين في حديث جابر المذكور سبب العذاب ما هو، ولا ذكر فيه الترجي لرفع العذاب، كما في حديث غيره، وظهر من ذلك صحة ما ذكرنا من تعدد الحال، ورد بعضهم احتجاج أبي موسى بالحديث المذكور: بأنه ضعيف، كما اعترف به. وقد رواه أحمد بإسناد صحيح على شرط مسلم، وليس فيه ذكر سبب التعذيب، فهو من تخليط ابن لهيعة. قلت: هذا من تخليط هذا القائل لأن أبا موسى لم يصرح بأنه ضعيف، بل قال: هذا حديث حسن وإن كان إسناده ليس بقوي، ولم يعلم هذا القائل الفرق بين الحسن والضعيف، لأن بعضهم عد الحسن من الصحيح لا قسيمه، ولذلك يقال للحديث الواحد: إنه حسن صحيح. وقال الترمذي: الحسن ما ليس في إسناده من يتهم بالكذب، وعبد الله بن لهيعة المصري لا يتهم بالكذب، على أن طائفة منهم قد صححوا حديثه ووثقوه، منهم: أحمد، رضي الله عنه.
ومنها: أنه قيل: هل للجريد معنى يخصه في الغرز على القبر لتخفيف العذاب؟ الجواب: أنه لا لمعنى يخصه، بل المقصود أن يكون ما فيه رطوبة من أي شجر كان، ولهذا أنكر الخطابي ومن تبعه وضع الجريد اليابس، وكذلك ما يفعله أكثر الناس من وضع ما فيه رطوبة من الرياحين والبقول ونحوهما على القبور ليس بشيء، وإنما السنة الغرز . فإن قلت: في الحديث المذكور: فوضع على كل قبر منهما كسرة. قلت: في رواية الأعمش: (فغرز)، فينبغي أن يغرز، لأن الوضع يوجد في الغرز بخلاف الوضع فافهم.
ومنها أنه النبي صلى الله عليه وسلم علل غرزهما على القبر بأمر معين من العذاب، ونحن لا نعلم ذلك مطلقا؟ الجواب: أنه لا يلزم من كوننا لا نعلم أيعذب أم لا؟ أن نترك ذلك. ألا ترى أنا ندعو للميت بالرحمة، ولا نعلم أنه يرحم أم لا؟.
ومنها: أنه هل لأحد أن يأمر بذلك لأحد أم الشرط أن يباشره بيده؟ الجواب: أنه لا يلزم ذلك، والدليل عليه أن بريدة بن الحصيب، رضي الله عنه، أوصى أن يوضع على قبره جريدتان، كما يأتي في هذا الكتاب. وقال بعضهم: ليس في السياق ما يقطع على أنه باشر الوضع بيده الكريمة صلى الله عليه وسلم، بل يحتمل أن يكون أمر به. قلت: هذا كلام واه جدا، وكيف يقول ذلك وقد صرح في الحديث: (ثم دعا بجريدتين فكسرهما فوضع على كل قبر منهما كسرة)؟. وهذا صريح في أنه صلى الله عليه وسلم وضعه بيديه الكريمة، ودعوى احتمال الأمر لغيره به بعيدة، وهذه كدعوى احتمال مجيء غلام زيد في قولك: جاء زيد، ومثل هذا الاحتمال لا يعتد به.
56 ((باب ما جاء في غسل البول)) أي: هذا باب في بيان ما جاء من الحديث في حكم غسل البول.
وجه المناسبة بين البابين من حيث إن المذكور في الباب السابق البول الذي كان سببا لعذاب صاحبه في قبره، وهذا الباب في بيان غسل ذلك البول: الألف واللام، فيه للعهد الخارجي. وأشار به البخاري إلى أن المراد من البول هو: بول الناس، لأجل إضافة البول إليه في الحديث السابق، لا جميع الأبوال على ما يأتي تعليقه الدال على ذلك، فلأجل هذا قال ابن بطال: لا حجة فيه لمن حمله على جميع الأبوال، ليحتج به في نجاسة بول سائر الحيوانات. وفي كلامه رد على الخطابي حيث قال: فيه دليل على نجاسة الأبوال كلها، وليس كذلك، بل الأبوال غير أبوال الناس على نوعين: أحدهما: نجسة مثل بول الناس يلتحق به لعدم الفارق، والآخر: طاهرة عند من يقول بطهارتها، ولهم أدلة أخرى في ذلك.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب القبر كان لا يستتر من بوله ولم يذكر سوى بول الناس هذا تعليق من البخاري، وإسناده في الباب السابق، وقد قلنا: إنه أراد به الإشارة إلى أن المراد من البول المذكور هو بول الناس لا سائر الأبوال، فلذلك قال: (ولم يذكر سوى بول الناس)، وهو من كلامه، نبه به على ما ذكرناه. وقال الكرماني: