عمدة القاري - العيني - ج ٣ - الصفحة ١١٧
بيان المعاني قوله: (أو بمكة) شك من الرواي. وقد ذكرناه عن قريب. قوله: (إنسانين) أي: بشرين، قال الجوهري: الإنس البشر، الواحد أنسي وأنسي بالتحريك، والجمع: أناسي، وإن شئت جعلته إنسانا، ثم جمعته إناسي، فتكون الياء عوضا عن النون، وقال قوم: أصل الإنسان: إنسيان، على إفعلان، فحذفت: الياء، استخفافا لكثرة ما يجري على ألسنتهم، وإذا صغروها ردوها. وقال ابن عباس: إنما سمي إنسانا لأنه عهد إليه فنسي. ويقال: من الأنس، خلاف: الوحشة.
ويقال للمرأة أيضا إنسان، ولا يقال: إنسانة، والعامة تقوله. قوله: (يعذبان في قبورهما) وقد ورد في حديث أبي بكرة من (تاريخ البخاري) بسند جيد: مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فيعذب في البول، وأما الآخر فيعذب في الغيبة). وفي حديث أبي هريرة من (صحيح ابن حبان): (مر، عليه الصلاة والسلام، بقبر فوقف عليه وقال: ائتوني بجريدتين، فجعل أحداهما عند رأسه والأخرى عند رجليه. وقال: (لعله يخفف عنه بعض عذاب القبر). وهو عند أبي موسى بلفظ: (قبرين، رجل لا يتطهر من البول، وامرأة تمشي بالنميمة). وعند ابن أبي شيبة من حديث يعلى بن شبابة: (مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبر يعذب صاحبة فقال: (إن هذا القبر يعذب صاحبه في غير كبير)، وذكره البرقي في (تاريخه) قال: (قبرين أحدهما يأكل لحوم الناس ويغتابهم، وكان هذا لا يتقي بوله). وفي (تاريخ بحشل) من حديث الأعمش عن أبي سفيان عن جابر: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم حائطا لأم مبشر، فإذا بقبرين، فدعا بجريدة رطبة فشقها ثم وضع واحدة على أحد القبرين، والأخرى على الآخر، ثم قال: لا يرفعان عنهما حتى يجفا، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، والآخر كان لا يتنزه من البول). وفي حديث أنس: (مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين من بني النجار يعذبان في النميمة والبول، فأخذ سعفة رطبة فشقها، وجعل على ذا نصفا وعلى ذا نصفا، وقال: لا يزال يخفف عنهما العذاب ما دامتا رطبتين). وفي (كتاب ابن الجوزي): (مر برجل يعذب في الغيبة وبآخر يعذب في البول).
وورد في عذاب القبر أحاديث كثيرة عن جماعة من الصحابة، رضي الله تعالى عنهم: منها: حديث عبادة بن الصامت بسند لا بأس به عند البزار. ومنها: حديث أبي سعيد وزيد بن ثابت عند مسلم. ومنها: حديث شرحبيل بن حسنة. ومنها: حديث أبي موسى الأشعري عند أبي داود. ومنها: حديث أبي أمامة وأبي رافع، ذكرهما أبو موسى المديني في (كتاب الترغيب والترهيب). ومنها: حديث ميمونة، ذكره ابن منده في كتاب الطهارة. ومنها: حديث عثمان، رضي الله تعالى عنه، عند اللالكائي.
قوله: (وما يعذبان في كبير) أي: بكبير تركه عليهما، إلا أنه كبير من حيث المعصية. وقيل: يحمل كبير على أكبر، تقديره: ليس هو أكبر الذنوب، إذ الكبائر متفاوتة. وقال القاضي عياض: إنه غير كبير عندكم لقوله تعالى * (وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم) * (النور: 15) وذلك أن عدم التنزه من البول يلزم منه بطلان الصلاة، وتركها كبيرة. وفي (شرح السنة) معنى: (ما يعذبان في كبير): أنهما لا يعذبان في أمر كان يكبر ويشق عليهما الاحتراز منه إذ لا مشقة في الاستتار عند البول وترك النميمة ولم يرد أنهما غير كبير في أمر الدين وقال المازري [/ قع: الذنوب تنقسم إلى ما يشق تركه طيبا كالملاذ المحرمة وإلى ما بنفرد منه طبعا كتارك السموم، وإلى ما لا يشق تركه طبعا: كالغيبة والبول. قوله: (لعله اين يخفف عنهما) أي: لعله يخفف ذلك من ناحية التبرك بأثر النبي، عليه الصلاة والسلام، ودعائه بالتخفيف عنهما، فكأن صلى الله عليه وسلم جعل مدة بقاء النداوة فيهما حدا لما وقعت له المسألة من تخفيف العذاب عنهما، وليس ذلك من أجل أن في الرطب معنى ليس في اليابس، قاله الخطابي. وقال النووي: قال العلماء: هو محمول على أنه صلى الله عليه وسلم سأل الشفاعة لهما فاجيبت شفاعته بالتخفيف عنهما إلى أن ييبسا. وقيل: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم يدعو لهما تلك المدة، وقيل: لكونهما يسبحان ما دامتا رطبتين وليس لليابس بتسبيح، قالوا: في قوله تعالى: * (وإن من شيء إلا يسبح بحمده) * (الإسراء: 44) معناه: وإن من شيء حي، ثم حياة كل شيء بحسبه، فحياة الخشبة ما لم يتبس وحياة الحجر ما لم يقطع، وذهب المحققون إلى أنه على عمومه، ثم اختلفوا: هل يسبح حقيقة أم فيه دلالة على الصانع، فيكون مسبحا منزها بصورة حاله، وأهل التحقيق على أنه يسبح حقيقة، وإذا كان العقل لا يحيل جعل التمييز فيها وجاء النص به، وجب المصير إليه. واستحب العلماء قراءة القرآن عند القبر لهذا الحديث، لأنه إذا كان يرجى التخفيف لتسبيح الجريد، فتلاوة القرآن أولى. فإن قلت: ما الحكمة في كونهما ما داما رطبين يمنعان العذاب، بعد دعوى العموم في تسبيح كل شيء؟ قلت: يمكن أن يكون معرفة هذا كمعرفة عدد الزبانية في أنه تعالى هو المختص بها. قوله:
(١١٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 112 113 114 115 116 117 118 119 120 121 122 ... » »»