عمدة القاري - العيني - ج ٣ - الصفحة ١١٩
العظمة في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم هو الملك رب السماوات ورب الأرض ورب العالمين، وله النور في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم، مرة واحدة، ثم قال: اللهم اجعل ثوابها لوالدي لم يبق لوالديه حق إلا أداه إليهما). وقال النووي: المشهور من مذهب الشافعي وجماعة: أن قراءة القرآن لا تصل إلى الميت، والأخبار المذكورة حجة عليهم، ولكن أجمع العلماء على أن الدعاء ينفعهم ويصلهم ثوابه، لقوله تعالى: * (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالايمان) * (الحشر: 59) وغير ذلك من الآيات، وبالأحاديث المشهورة منها: قوله، صلى الله عليه وسلم: (اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد)، ومنها قوله، صلى الله عليه وسلم: (اللهم اغفر لحينا وميتنا)، وغير ذلك. فان قلت: هل يبلغ ثواب الصوم أو الصدقة أو العتق؟ قلت: روى أبو بكر النجار في كتاب (السنن) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن العاص بن وائل كان نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنة، وإن هشام بن العاص نحر حصته خمسين، أفيجزىء عنه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أباك لو كان أقر بالتوحيد فصمت عنه أو تصدقت عنه أو أعتقت عنه بلغه ذلك). وروى الدارقطني: (قال رجل: يا رسول الله كيف أبر أبوي بعد موتهما؟ فقال: إن من البر بعد الموت أن تصلي لهما مع صلاتك، وأن تصوم لهما مع صيامك، وأن تصدق عنهما مع صدقتك). وفي كتاب القاضي الإمام أبي الحسين بن الفراء، عن أنس، رضي الله تعالى عنه: (أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إذا نتصدق عن موتانا ونحج عنهم وندعو لهم فهل يصل ذلك إليهم؟ قال: نعم، ويفرحون به كما يفرح أحدكم بالطبق إذا أهدي إليه). وعن سعد: (أنه قال: يا رسول الله إن أبي مات، أفاعتق عنه؟ قال: نعم). وعن أبي جعفر محمد بن علي بن حسين: (أن الحسن والحسين، رضي الله عنهما، كانا يعتقان عن علي، رضي الله تعالى عنه). وفي (الصحيح) (قال رجل: يا رسول الله إن أمي توفيت، أينفعها أن أتصدق عنها؟ قال: نعم).
فان قلت: قال الله تعالى * (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) * (النجم: 39) وهو يدل على عدم وصول ثواب القرآن للميت؟ قلت: اختلف العلماء في هذه الآية على ثمانية أقوال: أحدهما: إنها منسوخة بقوله تعالى: * (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم) * (الطور: 21) أدخل الآباء الجنة بصلاح الأبناي، قاله ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما. الثاني: إنها خاصة بقوم إبراهيم وموسى، عليهما السلام، وأما هذه الأمة فلهم ما سعوا، وما سعى لهم غيرهم، قاله عكرمة. الثالث: المراد بالإنسان ههنا الكافر، قاله الربيع بن أنس. الرابع: ليس للإنسان إلا ما سعى من طريق العدل، فأما من باب الفضل فجائز أن يزيد الله تعالى ما شاء، قاله الحسين بن فضل. الخامس: إن معنى: ما سعى: ما نوى، قاله أبو بكر الوراق. السادس: ليس للكافر من الخير إلا ما عمله في الدنيا فيثاب عليه في الدنيا حتى لا يبقى له في الآخرة شيء، ذكره الثعلبي. السابع إن: اللام، في: الإنسان، بمعنى: على، تقديره: ليس على الإنسان إلا ما سعى. الثامن: إنه ليس له إلا سعيه، غير أن الأسباب مختلفة فتارة يكون سعيه في تحصيل الشيء بنفسه، وتارة يكون سعيه في تحصيل سببه، مثل سعيه في تحصيل قراءة ولد يترحم عليه، وصديق يستغفر له، وتارة يسعى في خدمة الدين والعبادة فيكتسب محبة أهل الدين، فيكون ذلك سببا حصل بسعيه، حكاه أبو الفرج عن شيخه ابن الزغواني.
الرابع: فيه وجوب الاستنجاء إذ هو المراد بعدم الاستتار من البول، فلا يجعل بينه وبينه حجابا من ماء أو حجر، ويبعد أن يكون المراد: الاستتار عن الأعين. وقال ابن بطال معناه: ولا يستتر جسده ولا ثوبه من مماسة البول، ولما عذب على استخفافه بغسله، وبالتحرز عنه دل على أن من ترك البول في مخرجه ولم يغسله أنه حقيق بالعذاب. وقال البغوي: فيه وجوب الاستتار عند قضاء الحاجة عن أعين الناس عند القضاء. قلت: هذا رد على من قال: ويبعد أن يكون المراد الاستتار عن الأعين، ولكن كلاهما واجب على ما لا يخفى، والتحقيق في هذا الكلام أن معنى رواية الاستتار إذا حمل على حقيقته يلزم منه أن يكون سبب العذاب مجرد كشف العورة، وفي الحديث ما يدل على أن للبول خصوصية في عذاب القبر يدل عليه ما رواه ابن خزيمة في (صحيحه) من حديث أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، مرفوعا: (أكثر عذاب القبر من البول)، فإذا كان كذلك تعين أن يكون معنى الاستتار على الوجه الذي ذكرناه، لتتفق ألفاظ الحديث على معنى واحد ولا تختلف، ويؤيد ذلك رواية أبي بكرة عند أحمد، وابن ماجة: (أما أحدهما فيعذب في البول). ومثله عند الطبراني عن أنس، وكلمة: في، للتعليل أي: يعذب أحدهما بسبب البول.
الخامس: فيه حرمة النميمة، وهذا بالإجماع، وقد مر الكلام فيه عن قريب.
(١١٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 114 115 116 117 118 119 120 121 122 123 124 ... » »»