رسول من ورائي من قومي). وإن هذا إخبار، وهو اختيار البخاري، ورجحه القاضي عياض، وقال جماعة أخرى: لم يكن مسلما وقت قدومه، وإنما كان إسلامه بعده، لأنه جاء مستثبتا. والدليل عليه ما في حديث ابن عباس، رواه ابن إسحاق وغيره، وفيه: (أن بني سعد بن بكر بعثوا ضمام بن ثعلبة)... الحديث، وفي آخره: (حتى إذا فرغ قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله)، وأجابوا عن قوله: آمنت، بأنه انشاء وابتداء إيمان، لا إخبار بإيمان تقدم منه، وكذلك قوله: (وأنا رسول من ورائي) ورجحة القرطبي لقوله في حديث ثابت عن أنس عند مسلم وغيره: فإن رسولك زعم. قال: والزعم: القول الذي لا يوثق به. قاله ابن السكيت وغيره: وقال بعضهم: فيه نظر، لأن الزعم يطلق على القول المحقق أيضا، كما نقله أبو عمر الزاهد في شرح فصيح شيخه، ثعلب. قلت: أصل وضعه، كما قاله ابن السكيت، واستعماله في القول المحقق مجاز يحتاج إلى قرينة، وأجابوا أيضا عن قولهم: إن البخاري فهم إسلام ضمام قبل قدومه، بأنه لا يلزم من تبويب البخاري ما ذكروه، لأن العرض على المحدث هو القراءة عليه، أعم من أن يكون تقدمت له، أو أبتدأ الآن على الشيخ بقراءة شيء لم يتقدم قراءته ولا نظره، وقالوا: قد بوب أبو داود عليه باب المشرك يدخل المسجد. وهو أيضا يدل على أنه لم يكن مسلما قبل قدومه. وقد مال الكرماني إلى مقالة الأولين حيث قال: فإن قلت: من أين عرف حقيقية كلام الرسول، عليه السلام، وصدق رسالته، إذ لا معجزة فيما جرى من هذه القصة؟ وهذا الإيمان لا يفيد إلا تأكيدا وتقريرا؟ قلت: الرجل كان مؤمنا عارفا بنبوته، عالما بمعجزاته قبل الوفود، ولهذا ما سأل إلا عن تعميم الرسالة إلى جميع الناس، وعن شرائع الإسلام. قلت: عكسه القرطبي فاستدل به على إيمان المقلد بالرسول، ولو لم تظهر له معجزة، وكذا أشار إليه ابن الصلاح. قوله: (وانا ضمام ابن ثعلبة)، بكسر الضاد المعجمة، وثعلبة، بالثاء المثلثة المفتوحة والباء الموحدة، أخو بني سعد بن بكر السعدي، قدم على النبي، عليه السلام، بعثه إليه بنو سعد، فسأله عن الإسلام، ثم رجع إليهم فأخبرهم به فاسلموا. وقال ابن عباس: ما سمعنا بوافد قط أفضل من ضمام ابن ثعلبة. قال ابن إسحاق: وكان قدوم ضمام هذا سنة تسع، وهو قول أبي عبيدة والطبري وغيرهما، وقال الواقدي: كان سنة خمس، وهو قول محمد بن حبيب، وفيه نظر من وجوه الأول: أن في رواية مسلم أن ذلك كان حين نزل النهي في القرآن عن سؤال الرسول، عليه السلام، وآية النهي في المائدة، ونزولها متأخر. الثاني: أن إرسال الرسل إلى الدعاء إلى الإسلام، إنما كان ابتداؤه بعد الحديبية، ومعظمه بعد فتح مكة، شرفها الله. الثالث: أن في حديث ابن عباس، رضي الله عنهما، أن قومه أطاعوه ودخلوا في الإسلام بعد رجوعه إليهم، ولم يدخل بنو سعد بن بكر بن هوازن في الإسلام إلا بعد وقعة حنين، وكانت في شوال سنة ثمان. قوله: (أخو بني بن سعد بن بكر) بن هوازن، وهم أخوال رسول الله، عليه الصلاة والسلام، وفي العرب سعود قبائل شتى، منها: سعد تميم، وسعد هذيل، وسعد قيس، وسعد بكر هذا. وفي المثل: بكل واد بنو سعد.
بيان استنباط الأحكام: وهو على وجوه. الأول: قال ابن الصلاح. فيه دلالة لصحة ما ذهب إليه العلماء من أن العوام المقلدين مؤمنون، وأنه يكتفى منهم بمجرد اعتقادهم الحق، جزما من غير شك وتزلزل، خلافا للمعتزلة، وذلك أنه، عليه الصلاة والسلام، قرر ضماما على ما اعتمد عليه في تعرف رسالته، وصدقه بمجرد إخباره إياه بذلك، ولم ينكره عليه، ولا قال له: يجب عليك معرفة ذلك بالنظر إلى معجزاتي، والاستدلال بالأدلة القطعية. الثاني: قال ابن بطال: فيه قبول خبر الواحد، لأن قومه لم يقولوا له: لا نقبل خبرك عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى يأتينا من طريق آخر. الثالث: قال أيضا: فيه جواز إدخال البعير في المسجد، وهو دليل على طهارة أبوال الإبل وأرواثها، إذ لا يؤمن ذلك منه مدة كونه في المسجد. قلت: هذا احتمال لا يحكم به في باب الطهارة، على أنا قد بينا أن المراد من قوله: (في المسجد) في الحديث في رحبة المسجد، ونحوها. الرابع: فيه جواز تسمية الأدنى للأعلى دون أن يكنيه، إلا أنه نسخ في حق الرسول، عليه السلام: بقوله تعالى: * (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا) * (النور: 63). الخامس: فيه جواز الاتكاء بين الناس في المجالس. السادس: فيه ما كان للنبي، عليه السلام، من ترك التكبر، لقوله: (ظهرانيهم). السابع: فيه جواز تعريف الرجل بصفة من البياض والحمرة، والطول والقصر، ونحو ذلك. الثامن: فيه الاستحلاف على الخبر لعلم اليقين، وفي مسلم: (فبالذي خلق السماء، وخلق الأرض، ونصب هذه الجبال، آلله أرسلك؟ قال: نعم) التاسع: فيه التعريف