فيه ما أعطي النبي، عليه الصلاة والسلام، من الفصاحة وجوامع الكلم لأنه أجاب السائل بجواب جامع لمعنى سؤاله لا بلفظه من أجل أن الغضب والحمية قد يكون لله عز وجل، وقد يكون لغرض الدنيا، فأجابه، عليه السلام، بالمعنى مختصرا إذ لو ذهب يقسم وجوه الغضب لطال ذلك ولخشي أن يلبس عليه. وجاء أيضا في الصحيح: (يقاتل للمغنم والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله تعالى، فقال: عليه السلام: من قاتل لتكون كلمة الله أعلى فهو في سبيل الله).
46 ((باب السؤال والفتيا عند رمي الجمار)) أي: هذا باب في بيان السؤال والفتيا، فالسؤال من جهة المستفتي والفتيا من جهة المفتي، وقد ذكرنا أن الفتيا، بضم الفاء، والفتوى بفتحها اسم من: استفتيت الفقيه فأفتاني، وهي جواب الحادثة، والجمار جمع جمرة وهي: الحصاة. والمراد جمرات المناسك. وقال ابن بطال: معنى هذا الباب أنه يجوز أن يسأل العالم عن العلم، ويجيب وهو مشتغل في طاعة الله لا يترك الطاعة التي هو فيها، إلا إلى طاعة أخرى. فإن قلت: ليس فيه معنى ما ترجم له. فإن قوله في الحديث: (عند الجمرة) ليس فيه إلا السؤال، وهو بموضع الجمرة وليس فيه أنه في خلال الرمي. قلت: لا نسلم ذلك. فإن قوله: (عند رمي الجمار) أعم من أن يكون مقارنا بشروعه في رمي الجمار، أو في خلال رميه، أو عقيب الفراغ منه.
فإن قلت: ما وجه المناسبة بين البابين؟ قلت: المناسبة بينهما ظاهرة لأن كلا منهما مشتمل على السؤال عن العالم وهو ظاهر لا يخفى.
124 حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة عن الزهري عن عيسى ابن طلحة عن عبد الله بن عمرو قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم عند الجمرة وهو يسأل فقال رجل: يا رسول الله! نحرت قبل أن أرمي. قال: (ارم ولا حرج) قال آخر: يا رسول الله! حلقت قبل أن أنحر. قال: (انحر ولا حرج) فما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: (افعل ولا حرج).
.
مطابقة الحديث للترجمة في قوله: (عند الجمرة) وهو يسأل وهذا من جانب المستفتي، وقوله: (ارم ولا حرج وافعل ولا حرج). من جهة المفتي فطابق الترجمة بجزئيها.
بيان رجاله: وهم خمسة. الأول: أبو نعيم الفضل بن دكين. الثاني: عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، نسب إلى جده أبي سلمة الماجشون، بفتح الجيم وكسرها: أبو عبد الله المدني الفقيه التيمي، سكن بغداد ومات بها سنة أربع وستين ومائة، وصلى عليه المهدي ودفن في مقابر قريش. قال يحيى بن معين: كان يقول بالقدر ثم أقبل إلى السنة ولم يكن من شأنه الحديث، فلما قدم بغداد كتبوا عنه، وقال: جعلني أهل بغداد محدثا، وقال بشر بن السري: لم يسمع الماجشون من الزهري، وقال أحمد بن سنان: معناه عندي أنه عرض. وقال ابن أبي خيثمة: أنه كان من أصفهان فنزل المدينة، وكان يلقى الناس فيقول: جوني جوني. وسئل أحمد بن حنبل، فقال: تعلق بالفارسية بكلمة إذا لقي الرجل يقول: شوني شوني، فلقب به. وقال إبراهيم الحربي: الماجشون فارسي، وإنما سمي به لأن وجنتيه كانتا حمراوين، فسمي بالفارسية: الماي كون، ثم عرب أهل المدينة بذلك، وهو: بفتح الجيم وضم المعجمة وبالنون. وقال الغساني: الماجشون اسمه يعقوب بن أبي سلمة، وابن أبي سلمة: ميمون، والماجشون بالفارسية: ماه كون، فعرب. ومعناه الورد. ويقال: الأبيض الأحمر. وقال البخاري في (التاريخ الأوسط): الماجشون هو يعقوب بن أبي سلمة أخو عبد الله بن أبي سلمة، فجرى على بنيه وعلى بني أخيه. وقال الدارقطني: إنما لقب الماجشون لحمرة في وجهه، وقال: إن سكينة، بضم المهملة: بنت الحسين بن علي، رضي الله تعالى عنهم، لقبت بذلك. الثالث: محمد بن مسلم الزهري. الرابع: عيسى بن طلحة بن عبيد الله القرشي التيمي. الخامس: عبد الله بن عمرو بن العاص.
بيان لطائف إسناده: منها: أن فيه التحديث والعنعنة. ومنها: أن رواته ما بين كوفي ومدني ومصري، وقد مر الكلام في هذا الحديث مستوفى في باب: الفتيا وهو واقف على الدابة. قوله: (عند الجمرة) اللام: إما للجنس فيشمل كل جمرة كانت من الجمرات الثلاث، للعهد فالمراد جمرة العقبة لأنها إذا أطلقت كانت هي المرادة.