فأخذ الخضر برأسه فقطعه بيده هكذا، وأومأ سفيان بأطراف أصابعه كأنه يقطف شيئا. وجاء فيه، في التفسير: (ثم خرجا من السفينة، فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما مع الغلمان، فاقتلع رأسه فقتله). وجاء: (فوجد غلمانا يلعبون، فأخذ غلاما كافرا ظريفا، فأضجعه ثم ذبحه بالسكين). وقال الكلبي: صرعه ثم نزع رأسه من جسده فقتله. وقيل: رفصه برجله فقتله. وقيل: ضرب رأسه بالجدار حتى قتله. وقيل: أدخل أصبعه في سرته فاقتلعها فمات، فلما قتله قال موسى: * (اقتلت نفسا زكية) * (الكهف: 74) أي: طاهرة * (بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا) * (الكهف: 74) أي منكرا. قال: فغضب الخضر فاقتلع كتف الصبي الأيسر، وقشر اللحم عنه فإذا في عظم كتفه مكتوب كافر لا يؤمن بالله أبدا. وفي مسلم: (وأما الغلام فطبع يوم طبع كافرا، وكان أبواه قد عطفا عليه، فلو أنه أدرك أرهقهما طغيانا وكفرا). والطغيان: الزيادة في الإضلال. قال البخاري: وكان ابن عباس يقرأ: * (وكان أبواه مؤمنين) * (الكهف: 78) وهو كان كافرا. وعنه: وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين. وقوله: غلاما، يدل على أنه كان غير بالغ، والغلام اسم للمولود إلى أن يبلغ، وزعم قوم أنه كان بالغا يعمل الفساد، واحتجوا بقوله: بغير نفس، إن القصاص إنما يكون في حق البالغ. وأجاب الجمهور عن ذلك: بأنا لا نعلم كيف كان شرعهم، فلعله كان يجب على الصبي في شرعهم كما يجب في شرعنا عليهم غرامة المتلفات، ويقال: المراد به التنبيه على أنه قتل بغير حق. فإن قلت: في أين كان قضية قتل الغلام؟ قلت: في أبله، بضم الهمزة والباء الموحدة وتشديد اللام المفتوحة بعدها هاء، وهي مدينة بالقرب من بصرة وعبادان، ويقال: أيلاء، بفتح الهمزة وسكون الياء واللام الممدودة: مدينة كانت على ساحل بحر القلزم على طريق حجاج مصر. قوله: (قال ابن عيينة) أي: سفيان بن عيينة، وهذا أوكد، والاستدلال عليه إنما هو بزيادة: لك، في هذه المرة. قال العلامة جار الله: فإن قلت: ما معنى زيادة لك؟ قلت: زيادة المكافحة بالعتاب على رفض الوصية والوسم بقلة الصبر عند الكرة الثانية. قوله: (حتى إذا أتيا) وفي بعض النسخ: (حتى أتيا) بدون لفظة: إذا. قوله: (أهل قرية) هي: أنطاكية، قاله ابن عباس. وقال ابن سيرين: ابلة وهي أبعد الأرض من السماء، وجاء أنهم كانوا من أهل قرية لئام. وقيل: قرية من قرى الروم يقال لها ناصرة وإليها تنسب النصارى. وقال السهيلي: قيل: إنها برقة، وقيل: إنها باجروان وهي مدينة بنواحي أرمينية من أعمال شروان، عندها فيما قيل عين الحياة التي وجدها الخضر، عليه السلام، فوافياها بعد غروب الشمس، فاستطعما أهلها واستضافاهم فأبوا أن يضيفوهما، ولم يجدا في تلك الليلة في تلك القرية قرى ولا مأوى، وكانت ليلة باردة، فالتجآ إلى حائط على شاطىء الطريق يريد أن ينقض، أي: يكاد أن يسقط، وإسناد الإرادة إلى الجدار مجاز، إذ لا إرادة له حقيقة، والمراد ههنا: المشارفة على السقوط. وقال الكسائي: إرادة الجدار ههنا ميله، وفي البخاري: مائل، وكان أهل القرية يمرون تحته على خوف قوله: (قال الخضر بيده فأقامه) قد قلنا: إن معناه: أشار بيده فأقامه. وفي رواية قال: (فمسحه بيده)، وذكر الثعلبي أن سمك الجدار مائتا ذراع بذراع تلك القرى، وطوله على وجه الأرض خمسمائة ذراع، وعرضه خمسون ذراعا. قيل: إنه مسحه كالطين يمسحه القلال فاستوى. وعن ابن عباس: هدمه ثم قعد يبنيه. وقيل: أقامه بعمود عمده به. فقال له موسى: لو شئت لاتخذت عليه أجرا فيكون لنا قوتا وبلغة على سفرنا إذ استضفناهم فلم يضيفونا. فقال الخضر: * (هذا فراق بيني وبينك) * الآية. (الكهف: 78) فإن قلت: هذا إشارة إلى ماذا؟ قلت: قد تصور فراق بينهما عند حلول ميعاده على ما قال: فلا تصاحبني، فأشار إليه وجعله مبتدأ، ويجوز أن يكون إشارة إلى السؤال الثالث أي: هذا الاعتراض سبب الفراق.
بيان استنباط الأحكام: وهو على وجوه. الأول: فيه استحباب الرحلة للعلم. الثاني: فيه جواز التزود للسفر. الثالث: فيه فضيلة طلب العلم والأدب مع العالم، وحرمة المشايخ، وترك الاعتراض عليهم وتأويل ما لم يفهم ظاهره من أقوالهم وأفعالهم، والوفاء بعهودهم، والاعتذار عند المخالفة. الرابع: فيه إثبات كرامات الأولياء وصحة الولاية. الخامس: فيه جواز سؤال الطعام عند الحاجة. السادس: فيه جواز الإجارة. السابع: فيه جواز ركوب البحر ونحو ذلك بغير أجرة برضى صاحبه. الثامن: فيه الحكم بالظاهر حتى يتبين خلافه. التاسع: فيه أن الكذب الإخبار على خلاف الواقع عمدا أو سهوا خلافا للمعتزلة. العاشر: إذا تعارضت مفسدتان يجوز دفع أعظمهما بارتكاب أخفهما، كما في خرق الخضر السفينة لدفع غصبها وذهاب جملتها. الحادي عشر: فيه بيان أصل عظيم وهو: وجوب التسليم لكل ما جاء به الشرع، وإن كان بعضه لا تظهر حكمته للعقول ولا يفهمه أكثر الناس، وقد لا يفهمونه كلهم: كالقدر، وموضع الدلالة قتل الغلام، وخرق السفينة فإن