عمدة القاري - العيني - ج ٢ - الصفحة ١٧٤
وذا، زائدة أجازه جماعة منهم ابن مالك. قوله: (أنزل) على صيغة المجهول. وفي رواية الكشميهني: (أنزل الله)، والإنزال في اللغة إما بمعنى الإيواء كما يقال: أنزل الجيش بالبلد، ونزل الأمير بالقصر، وإما بمعنى تحريك الشيء من علو إلى سفل، كقوله تعالى: * (وأنزلنا من السماء ماء) * (المؤمنون: 18، الفرقان: 48، لقمان: 10) وهذان المعنيان لا يتحققان في: أنزل الله، فهو مستعمل في معنى مجازي بمعنى: أعلم الله الملائكة بالأمر المقدر، وكذلك المعنى في أنزل الله القرآن، فمن قال: إن القرآن معنى قائم بذات الله تعالى، فإنزاله أن يوجد الكلمات والحروف الدالة على ذلك المعنى، ويثبتها في اللوح المحفوظ. ومن قال: القرآن هو الألفاظ، فإنزاله مجرد إثباته في اللوح المحفوظ، لأن الإنزال إنما يكون بعد الوجود، والمراد بإنزال الكتب السماوية أن يتلقاها الملك من الله تلقيا روحانيا أو يحفظها من اللوح المحفوظ وينزل بها فيلقيها على الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام. وكأن النبي، عليه الصلاة والسلام، أوحي إليه في يومه ذلك بما سيقع بعده من الفتن، فعبر عنه بالإنزال. قوله: (الليلة) بالنصب على الظرفية. قوله: (وما فتح من الخزائن) الكلام فيه من جهة الإعراب مثل الكلام فيما أنزل، وعبر عن الرحمة بالخزائن، كقوله: (خزائن رحمة ربي)، وعن العذاب بالفتن لأنها أسباب مؤدية إلى العقاب. وقال المهلب: فيه دليل على أن الفتن تكون في المال وفي غيره لقوله: (ماذا أنزل من الفتن! وماذا فتح من الخزائن!). وقال الداودي: قوله: (ماذا أنزل الليلة من الفتن) وهو ما فتح من الخزائن. قال: وقد يعطف الشيء على نفسه تأكيدا، لأن ما يفتح من الخزائن يكون سببا للفتنة، واحتج الأول بقول حذيفة، رضي الله عنه: فتنة الرجل في أهله وماله يكفرها الصلاة والصدقة. قلت: المعنى أنه، عليه الصلاة والسلام، رأى في تلك الليلة المنام، وفيه أنه سيقع بعده فتن. وأنه يفتح لأمته الخزائن. وعرف عند الاستيقاظ حقيقته إما بالتعبير أو بالوحي إليه في اليقظة قبل النوم أو بعده. وقد وقعت الفتن كما هو المشهور، وفتحت الخزائن حيث تسلطت الصحابة، رضي الله عنهم، على فارس والروم وغيرهما، وهذا من المعجزات حيث أخبر بأمر قبل وقوعه فوقع مثل ما أخبر. قوله: (أيقظوا) بفتح الهمزة لأنه أمر من الإيقاظ بكسر الهمزة. قوله: (صواحب الحجر) كلام إضافي مفعوله، وأراد بها زوجاته، عليه الصلاة والسلام، وهو جمع: صاحبة. والحجر، بضم الحاء المهملة وفتح الجيم: جمع حجرة، وأراد بها منازل زوجاته، وإنما خصهن بالإيقاظ لأنهن الحاضرات حينئذ أخبرت بذلك أم سلمة، رضي الله عنها. كانت تلك الليلة ليلتها وهو الظاهر. وقال الكرماني: يجوز أيقظوا، بكسر الهمزة أي: انتبهوا أو الصواحب منادى لو صحت الرواية به. قلت: هذا ممنوع من وجهين: أحدهما: من جهة الرواية حيث لم يروونه هكذا. والآخر: من جهة اللفظ، وهو أنه لو كان كذلك كان يقال: أيقظن، لأن الخطاب للنساء. قوله: (فرب كاسية) أصل: رب، للتقليل، وقد تستعمل للتكثير كما في رب ههنا، والتحقيق فيه أنه ليس معناه التقليل دائما خلافا للأكثرين، ولا التكثير دائما خلافا لابن درستويه وجماعة، بل ترد للتكثير كثيرا، وللتقليل قليلا. فمن الأول: * (ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين) * (الحجر: 2) (ورب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة). ومن الثاني: قول الشاعر:
* ألا رب مولود وليس له أب * وفيها لغات قد ذكرناها مرة، وفعلها الذي تتعلق هي به ينبغي أن يكون ماضيا ويحذف غالبا. والتقدير: رب كاسية عارية عرفتها، والمراد: إما اللاتي تلبس رقيق الثياب التي لا تمنع من إدراك البشرة معاقبات في الآخرة بفضيحة التعري، وإما اللابسات للثياب الرقيقة النفيسة عاريات من الحسنات في الآخرة، فندبهن على الصدقة وحضهن على ترك السرف في الدنيا، يأخذن منها أقل الكفاية ويتصدقن بما سوى ذلك، وهذه البلوى عامة في هذا الزمان لا سيما في نساء مصر، فإن الواحدة منهن تتغالى في ثمن قميص إما من عندها أو بتكليفها زوجها حتى تفصل قميصا بأكمام هائلة وذيل سابلة جدا، منجرة وراءها أكثر من ذراعين، وكل كم من كميها يصلح أن يكون قميصا معتدلا، ومع هذا إذا مشت يرى منها أكثر بدنها من نفس كمها، فلا شك أنهن ممن يدخلن في هذا الحديث، وهو من جملة معجزات النبي، عليه الصلاة والسلام، حيث أخبر بذلك قبل وقوعه، لما علم باطلاع الله تعالى إياه أن مثل هذا سيقع في أمته من فتح الخزائن وكثرة الأموال المؤدية إلى مثل هذه الجريمة وغيرها، ولكن لما أمر النبي، عليه الصلاة والسلام، بإيقاظ نسائه خص تذكيره ووعظه لهن بهذا الوصف تحذيرا لهن عن مباشرة الإسراف المنهي عنه، ولأنه من الأمور المؤدية إلى فساد عظيم على ما لا يخفى. وقال الطيبي: (رب كاسية) كالبيان لموجب استيقاظ الأرواح، أي: لا ينبغي لهن أن يتغافلن ويعتمدن على كونهن أهالي رسول الله، عليه الصلاة والسلام، أي: رب كاسية حلى الزوجية
(١٧٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 169 170 171 172 173 174 175 176 177 178 179 ... » »»