عمدة القاري - العيني - ج ٢ - الصفحة ١٢٤
ذلك مفسدة أو خوف فتنة على الواعظ أو الموعوظ، ونحو ذلك. الثاني: في قوله: (فظن أنه لم يسمع النساء) دليل على أن على الإمام افتقاد رعيته وتعليمهم ووعظهم. الثالث: فيه أن صدقة التطوع لا تحتاج إلى إيجاب وقبول، ويكفي فيها المعاطاة، لأنهن ألقين الصدقة في ثوب بلال من غير كلام منهن ولا من بلال ولا من غيرهما، وهذا هو الصحيح من مذهب الشافعي، رحمه الله؛ خلافا لأكثر العراقيين من أصحابه حيث قالوا: يفتقر إلى الإيجاب والقبول. الرابع: فيه دليل على أن الصدقات العامة إنما يصرفها مصارفها الإمام. الخامس: فيه دليل أن الصدقة قد تنجي من النار، قاله ابن بطال. السادس: فيه جواز صدقة المرأة من مالها بغير إذن زوجها، ولا يتوقف في ذلك على ثلث مالها. وقال مالك: لا تجوز الزيادة على الثلث إلا بإذن الزوج، والحجة عليه أنه، عليه الصلاة والسلام، لم يسأل: هل هذا بإذن أزواجهن أم لا؟ وهل هو خارج من الثلث أو لا؟ ولو اختلف الحكم بذلك لسأل. قال القاضي عياض، رحمه الله، احتجاجا لمذهب مالك: الغالب حضور أزواجهن، وإذا كان كذلك، فتركهم الإنكار رضى منهم بفعلهن. وقال النووي: هذا ضعيف، لأنهن معتزلات لا يعلم الرجال المتصدقة منهم من غيرها، ولا قدر ما يتصدقن به، ولو علموا فسكوتهم ليس إذنا. فإن قلت: احتج مالك ومن تبعه في ذلك بما خرجه أبو داود من حديث موسى ابن إسماعيل عن حماد عن داود بن أبي هند، وحبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجوز لامرأة أمر في مالها إذا ملك زوجها عصمتها). وبما خرجه النسائي وابن ماجة من حديث أبي كامل عن خالد، يعني ابن الحارث: ثنا حسين عن عمرو بن شعيب أن أباه أخبره عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرأة عطية إلا بإذن زوجها). قال البيهقي: الطريق إلى عمرو بن شعيب صحيح، فمن أثبت أحاديث عمرو بن شعيب لزمه إثباته. والجواب عنه من أوجه: أحدها: معارضته بالأحاديث الصحيحة الدالة على الجواز عند الإطلاق، وهي أقوى منه، فقدمت عليه. وقد يقال: انه واقعة حال، فيمكن حملها على أنها كانت قدر الثلث. الثاني: على تسليم الصحة إنه محمول على الأولى، والأدب ذكره الشافعي في البويطي، قال: وقد أعتقت ميمونة، رضي الله عنها، فلم يعب النبي صلى الله عليه وسلم عليها. وكما يقال: ليس لها أن تصوم وزوجها حاضر إلا بإذنه، فإن فعلت فصومها جائز، ومثله إن خرجت بغير إذنه فباعت، فهو جائز. الثالث: الطعن فيه، قال الشافعي: هذا الحديث سمعناه وليس بثابت، فيلزمنا أن نقول به والقرآن يدل على خلافه ثم الأمر ثم المنقول ثم المعقول. قيل: أراد بالقرآن، قوله تعالى: * (فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون) * (البقرة: 237) وقوله: * (فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا) * (النساء: 4). وقوله: * (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) * (البقرة: 229) وقوله: * (من بعد وصية يوصين بها أو دين) * (النساء: 12) وقوله: * (وابتلوا اليتامى) * الآية (النساء: 6) ولم يفرق، فدلت هذه الآيات على نفوذ تصرفها في مالها دون إذن زوجها، وقال صلى الله عليه وسلمن لزوجة الزبير رضي الله عنه: (إرضخي ولا توعي فيوعى الله عليك) متفق عليه. وقال: (يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة). واختلعت مولاة لصفية بنت أبي عبيد من زوجها من كل شيء، فلم ينكر ذلك ابن عمر، رضي الله عنهما. وقد طعن ابن حزم في حديث عمرو بن شعيب بأن قال: صحيفة منقطعة، وقد علمت أن شعيبا صرح بعبد الله بن عمرو، فلا انقطاع . وقد أخرجه الحاكم من حديث حماد بن سلمة عن داود بن أبي هند وحبيب المعلم عن عمرو به، ثم قال: صحيح الإسناد، ثم ذكر ابن حزم من حديث ابن عمر: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما حق الزوج على زوجته؟ قال: لا تصدق إلا بإذنه، فإن فعلت كان له الأجر وعليها الوزر). ثم قال: هذا خيرها لك، لأن فيه موسى بن أعين وهو مجهول، وليث بن أبي سليم وليس بالقوي وهو غريب منه، فإن موسى بن أعين روى عن جماعة وعنه جماعة، واحتج به الشيخان، ووثقه أبو حاتم وأبو زرعة والنسائي. نعم، فيه الحسن بن عبد الغفار وهو مجهول، وليته أعله به. ثم ذكر حديث إسماعيل بن عياش عن شرحبيل بن مسلم الخولاني عن أبي أمامة رفعه: (لا تنفق المرأة شيئا من بيت زوجها إلا بإذنه، قيل: يا رسول الله ولا الطعام؟ قال: ذلك أفضل أموالنا). ثم إسماعيل ضعيف، وشرحبيل مجهول لا يدرى من هو، وهذا عجيب منه. فإسماعيل حجة فيما يروي عن الشاميين، وشرحبيل شامي، وحاشاه من الجهالة. روى عنه جماعة. قال أحمد: هو من ثقات الشاميين، نعم، ضعفه ابن معين، وقد أخرجه ابن ماجة والترمذي وقال: حسن. الرابع: من أوجه الجواب، ما قيل: إن المراد من مال زوجها لا من مالها، وفيه نظر.
(١٢٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 119 120 121 122 123 124 125 126 127 128 129 ... » »»