دفعة بعد دفعة وقتا بعد وقت ولهذا قال الله تعالى في حق القرآن * (نزل عليك الكتاب بالحق) * وفي حق التوراة والإنجيل * (وأنزل التوراة والإنجيل) * فإن قلت قال * (إنا أنزلناه في ليلة القدر) * قلت معناه أنزلناه من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا دفعة واحدة ثم نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم من بيت العزة في عشرين سنة بحسب الوقائع والحوادث قوله على موسى عليه السلام هكذا هو في الصحيحين وجاء في غير الصحيحين نزل الله على عيسى وكلاهما صحيح أما عيسى فلقرب زمنه وأما موسى فلأن كتابه مشتمل على الأحكام بخلاف كتاب عيسى فإنه كان أمثالا ومواعظ ولم يكن فيه حكم وقال بعضهم لأن موسى بعث بالنقمة على فرعون ومن معه بخلاف عيسى وكذلك وقعت النقمة على يد النبي صلى الله عليه وسلم بفرعون هذه الأمة وهو أبو جهل بن هشام ومن معه قلت هذا بعيد لأن ورقة ما كان يعلم بوقوع النقمة على أبي جهل في ذلك الوقت كما كان في علمه بوقوع النقمة على فرعون على يد موسى عليه السلام حتى يذكر موسى ويترك عيسى. وقال آخرون ذكر موسى تحقيقا للرسالة لأن نزوله على موسى متفق عليه بين اليهود والنصارى بخلاف عيسى فإن بعض اليهود ينكرون نبوته وقال السهيلي أن ورقة كان تنصر والنصارى لا يقولون في عيسى أنه نبي يأتيه جبريل عليه السلام وإنما يقولون أن أقنوما من الأقانيم الثلاثة اللاهوتية حل بناسوت المسيح على اختلاف بينهم في ذلك الحلول وهو أقنوم الكلمة والكلمة عندهم عبارة عن العلم فلذلك كان المسيح في زعمهم يعلم الغيب ويخبر بما في الغد في زعمهم الكاذب فلما كان هذا مذهب النصارى عدل عن ذكر عيسى إلى ذكر موسى لعلمه ولاعتقاده أن جبريل عليه السلام كان ينزل على موسى عليه السلام ثم قال لكن ورقة قد ثبت إيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم قلت لا يحتاج إلى هذا التمحل فإنه روى عنه مرة ناموس موسى ومرة ناموس عيسى فقد روى أبو نعيم في دلائل النبوة بإسناد حسن إلى هشام بن عروة عن أبيه في هذه القصة أن خديجة أولا أتت ابن عمها ورقة فأخبرته فقال لئن كنت صدقت إنه ليأتيه ناموس عيسى الذي لا يعلمه بنو إسرائيل وروى الزبير بن بكار أيضا من طريق عبد الله بن معاذ عن الزهري في هذه القصة أن ورقة قال ناموس عيسى وعبد الله بن معاذ ضعيف فعند إخبار خديجة له بالقصة قال لها ناموس عيسى بحسب ما هو فيه من النصرانية وعند إخبار النبي صلى الله عليه وسلم له قال له ناموس موسى والكل صحيح فافهم قوله يا ليتني فيها جذعا هكذا رواية الجمهور وفي رواية الأصيلي جذع بالرفع وكذا وقع لابن ماهان بالرفع في صحيح مسلم والأكثرون فيه أيضا على النصب قوله إذ يخرجك وفي رواية للبخاري في التعبير حين يخرجك قوله الأعودي وذكر البخاري في التفسير إلا أوذي من الأذى وهو رواية يونس قوله وإن يدركني يومك وزاد في رواية يونس حيا وفي سيرة ابن إسحاق إن أدركت ذلك اليوم يعني يوم الإخراج وفي سيرة ابن هشام ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه ثم أدنى رأسه منه يقبل يافوخه وقيل ما في البخاري هو القياس لأن ورقة سابق بالوجود والسابق هو الذي يدركه من يأتي بعده كما جاء أشقى الناس من أدركته الساعة وهو حي ثم قيل ولرواية ابن إسحاق وجه لأن المعنى إن أر ذلك اليوم فسمى رؤيته إدراكا وفي التنزيل * (لا تدركه الأبصار) * أي لا تراه على أحد القولين قلت هذا تأويل بعيد فلا يحتاج إليه لأنه لا فرق بين أن يدركني وبين أن أدركت في المعنى لأن أن تقرب معنى الماضي من المستقبل وهو ظاهر لا يخفى قوله وفتر الوحي وزاد البخاري بعد هذا في التعبير وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤس الجبال فكلما أوفي بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه يتراءى له جبريل عليه السلام فقال يا محمد إنك رسول الله حقا فيسكن لذلك جأشه وتقر عينه حتى يرجع فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك فإذا أوفي بذروة جبل يتراءى له جبريل فقال له مثل ذلك وهذا من بلاغات معمر ولم يسنده ولا ذكر راويه ولا أنه صلى الله عليه وسلم قاله ولا يعرف هذا من النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه قد يحمل على أنه كان أول الأمر قبل رؤية جبريل عليه الصلاة والسلام كما جاء مبينا عن ابن إسحاق عن بعضهم أو أنه فعل ذلك لما أحرجه تكذيب قومه كما قال تعالى * (فلعلك باخع نفسك) * أو خاف أن الفترة لأمر أو سبب فخشي أن يكون عقوبة من ربه ففعل ذلك بنفسه ولم يرد بعد شرع بالنهي عن
(٥٥)