يفيد القصر والحصر، لأن المبتدأ والخبر إذا كانا معرفتين يستفاد ذلك منهما. فإن قلت: ما محل هذه الجملة؟ قلت: النصب لأنه مقول القول، واللام في: لله، صلة، لأن الفصيح أن يقال: نصح له، فإن قلت: لم ترك اللام في عامتهم؟ قلت: لأنهم كالاتباع للأئمة لا استقلال لهم، وإعادة اللام تدل على الاستقلال. قوله (وقوله تعالى) بالجر، عطف على قوله: (قول النبي) صلى الله عليه وسلم.
الثاني: وجه المناسبة بين البابين من حيث إن المذكور في الباب الأول، أن الأعمال بالنيات، وأنها لا تقبل إلا إذا كانت ابتغاء لوجه الله تعالى مع ترك الرياء، والعلم على هذا الوجه من جملة النصيحة لله تعالى، ومن جملة النصيحة لرسوله أيضا، حيث أتى بعمله على وفق ما أمر به الرسول عليه السلام، مجتنبا عما نهاه عنه. ثم إن البخاري، رحمه الله تعالى، ختم كتاب الإيمان بهذا الحديث لأنه حديث عظيم جليل حفيل، عليه مدار الإسلام، كما قيل: إنه أحد الأحاديث الأربعة التي عليها مدار الإسلام، فيكون هذا ربع الإسلام. ومنهم من قال: يمكن أن يستخرج منه الدليل على جميع الأحكام.
الثالث: أنه ذكر هذا الحديث معلقا ولم يخرجه مسندا في هذا الكتاب، لأن راوي الحديث تميم الداري، وأشهر طرقه فيه: سهيل بن أبي صالح، وليس من شرطه، لأنه لم يخرج له في صحيحه، وقد أخرج له مسلم والأربعة، وروى عنه مالك ويحيى الأنصاري والثوري وابن عيينة وحماد بن سلمة وخلق كثير، والأربعة. وقال البخاري: سمعت عليا يعني ابن المديني، يقول: كان سهيل بن أبي صالح مات له أخ، فوجد عليه فنسي كثيرا من الأحاديث. وقال يحيى بن معين: لا يحتج به، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، وقال ابن عدي: وهو عندي ثبت لا بأس به مقبول الأخبار، وقد روى عنه الأئمة، وقال الحاكم: وقد روى مالك في شيوخه من أهل المدينة الناقد لهم، ثم قال في أحاديثه بالعراق: إنه نسي الكثير منها وساء حفظه في آخر عمره، وقد أكثر مسلم عنه في إخراجه في الشواهد مقرونا في أكثر رواته يحافظ لا يدافع، فيسلم بذلك من نسبته إلى سوء الحفظ، ولكن لما لم يكن عند البخاري من شرطه، لم يأت فيه بصيغة الجزم، ولا في معرض الإستدلال بل أدخله في التبويب فقال: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم كذا، فلم يترك ذكره لأنه عنده من الواهي، بل ليفهم أنه اطلع عليه أن فيه علة منعته من إسناده، وله من ذلك في كتابة كثير يقف عليه من له تمييز، والله أعلم.
الرابع: أن هذا الحديث أخرجه مسلم: حدثنا محمد بن عباد المكي ثنا سفيان عن سهيل عن عطاء بن يزيد الليثي عن تميم الداري أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (الدين النصيحة. قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسله ولأئمة المسلمين وعامتهم). وليس لتميم الداري في صحيح مسلم غيره، أخرجه في باب الإيمان، وأخرجه أبو داود أيضا في الأدب عن أحمد بن يونس عن زهير عن سهيل به. وأخرجه النسائي في البيعة عن يعقوب بن إبراهيم عن عبد الرحمن عن سفيان الثوري به، وعن محمد بن منصور عن سفيان بن عيينة به. وأخرجه إمام الأئمة، محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتاب (السياسة) تأليفه: حدثنا عبد الجبار بن العلاء المكي، حدثنا ابن عيينة عن سهيل، سمعت عطاء بن يزيد، حدثنا تميم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة الدين النصيحة! فقال رجل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولنبيه ولأئمة المؤمنين وعامتهم).
الخامس: أن حديث النصيحة روي عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة وهو وهم من سهيل أو ممن روى عنه. قال البخاري في (تاريخه): لا يصح إلا عن تميم، ولهذا الاختلاف لم يخرجه في (صحيحه)، وللحديث طرق دون هذه في القوة، فمنها ما أخرجه أبو يعلى من حديث ابن عباس، ومنها ما أخرجه البزار من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
السادس: قوله (الدين النصيحة)، فيه حذف تقديره: عماد الدين وقوامه النصيحة، كما يقال: الحج عرفة، أي: عماد الحج وقوامه وقوف عرفة. والتقدير: معظم أركان الدين النصيحة، كما يقال: الحج عرفة، أي: معظم أركان الحج وقوف عرفة. وأصل النصيحة مأخوذ من نصح الرجل ثوبه إذا خاطه بالمنصح، وهي الإبرة، والمعنى: أنه يلم شعث أخيه بالنصح، كما تلم المنصحة، ومنه التوبة النصوح، كأن الذنب يمزق الدين والتوبة تخيطه. وقال المازري: النصيحة مشتقة من: نصحت العسل إذا صفيته من الشمع، شبه تخليص القول من الغش بتخليص العسل من الخلط. وفي (المحكم) النصح: نقيض الغش، نصح له ونصحه ينصح نصحا أو نصوحا ونصاحة. وفي (الجامع): النصح: بذل المودة والاجتهاد في المشورة. وفي كتاب ابن طريف: نصح قلب الإنسان: خلص من الغش. وفي (الصحاح): هو باللام أفصح. وفي (الغريبين) نصحته، قال أبو زيد أي: صدقته. وقال الخطابي: النصيحة كلمة جامعة معناها: حيازة الحظ للمنصوح له، ويقال: هو من وجيز الأسماء، ومختصر