فعله أبو ذر كان خلاف المألوف. قوله: (ساببت رجلا) قال النووي: وسياق الحديث يشعر أن المسبوب كان عبدا، وقال صاحب (منهج الراغبين) والذي نعرفه أنه بلال، رضي الله عنه، وعن هذا أخذ بعضهم، فقال: وقيل: إن الرجل المذكور هو بلال المؤذن، مولى أبي بكر، رضي الله عنه، روى ذلك الوليد بن مسلم منقطعا. فإن قلت: لم قال: ساببت، من باب المفاعلة؟ قلت: ليدل على أن السب كان من الجهتين، ويدل عليه ما في رواية مسلم: (قال: أعيرته بأمه؟ فقلت: من سب الرجال سبوا أباه وأمه). فإن قلت: كيف جوز أبو ذر ذلك وهو حرام؟. قلت: الظاهر أن هذا كان منه قبل أن يعرف تحريمه، فكانت تلك الخصلة من خصال الجاهلية باقية عنده، فلذلك قال له صلى الله عليه وسلم: (إنك امرؤ فيك جاهلية) فإن قلت: ما كان تعييره بأمه؟ قلت: عيره بسواد أمه، على ما جاء في رواية أخرى: قلت له يا ابن السوداء وفي روايته في الأدب: وكانت أمة أعجمية فنلت منها، والأعجمي من لا يفصح باللسان العربي سواء كان عربيا أو عجميا. قوله: (إنك امرؤ فيك جاهلية) فيه ترك العاطف بين الجملتين لكمال الاتصال بينهما. فنزلت الثانية من الأولى منزلة التأكيد المعنوي من متبوعه في إفادة التقرير مع اختلاف في اللفظ، ومن هذا القبيل قوله تعالى: * (ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه) * (البقرة: 1 و 2) قوله: (إخوانكم خولكم) فيه حصر، وذلك لأن أصل الكلام أن يقال: خولكم إخوانكم لأن المقصود هو الحكم على الخول بالأخوة، ولكن لما قصد حصر الخول على الإخوان، قدم الإخوان، أي: ليسوا إلا إخوانا، وإنما قدم الإخوان لأجل الاهتمام ببيان الأخوة، ويجوز أن يكون من باب القلب المورث لملاحة الكلام، نحو قوله:
* نم وإن لم أنم كراي كراكا * شاهدي الدمع إن ذاك كذاكا * وقال بعض المعانيين: إن المبتدأ والخبر إذا كانا معرفتين، أي تعريف كان يفيد التركيب الحصر، وقال التيمي: كأنه قال: هم إخوانكم، ثم أراد إظهار هؤلاء الإخوان فقال: خولكم. قوله: (تحت أيديكم) فيه مجاز عن القدرة أو عن الملك، والأخوة أيضا مجاز عن مطلق القرابة، لأن الكل أولاد آدم، عليه السلام، أو عن أخوة الإسلام، والمماليك الكفرة إما أن نجعلهم في هذا الحكم تابعين لمماليك المؤمنين، أو نخصص هذا الحكم بالمؤمنة. قوله: (فليطعمه مما يأكل) من الإطعام، إنما قال: مما يأكل، ولم يقل مما يطعم، رعاية للمطابقة كما في قوله: (وليلبسه مما يلبس)، لأن الطعم يجيء بمعنى الذوق يقال: طعم يطعم طعما إذا ذاق أو أكل. قال الله تعالى: * (ومن لم يطعمه فإنه مني) * (البقرة: 249) أي: من لم يذقه، فلو قال: مما يطعم لتوهم أنه يجب الإذاقة مما يذوق، وذلك غير واجب. فإن قيل: لم لم يقل فليؤكله مما يأكل؟ قلت: إنما قال: فليطعمه، إشارة إلى أنه لا بد من إذاقته مما يأكل، وإن لم يشبعه من ذلك الأكل. قوله: (فإن كلفتموهم)، فيه حذف المفعول الثاني للاكتفاء، إذ أصله: فإن كلفتموهم ما يغلبهم.
بيان استنباط الأحكام: وهو على وجوه. الأول: فيه النهي عن سب العبيد وتعييرهم بوالديهم، والحث على الإحسان إليهم والرفق بهم، فلا يجوز لأحد تعيير أحد بشيء من المكروه يعرفه في آبائه، وخاصة نفسه. كما نهى عن الفخر بالآباء، ويلحق بالعبد من في معناه من أجير وخادم وضعيف، وكذا الدواب، ينبغي أن يحسن إليها ولا يكلف من العمل ما لا تطيق الدواب عليه، فإن كلفه ذلك لزمه إعانته بنفسه أو بغيره. الثاني: عدم الترفع على المسلم وإن كان عبدا ونحوه من الضعفة، لأن الله تعالى قال: * (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) * (الحجرات: 13) وقد تظاهرت الأدلة على الأمر باللطف بالضعفة، وخفض الجناح لهم، وعلى النهي عن احتقارهم والترفع عليهم. الثالث: استحباب الإطعام مما يأكل والإلباس مما يلبس. وقال القاضي عياض: الأمر محمول على الاستحباب لا على الإيجاب بالاجماع، بل إن أطعمه من الخبز وما يقتاته كان قد أطعمه مما يأكل، لأن: من، للتبعيض ولا يلزمه أن يطعمه من كل ما يأكل على العموم من الأدم وطيبات العيش، ومع ذلك فيستحب أن لا يستأثر على عياله، ولا يفضل نفسه في العيش عليهم. الرابع: فيه منع تكليفه من العمل ما لا يطيق أصلا، لا يطيق الدوام عليه، لأن النهي للتحريم بلا خلاف، فإن كلفه ذلك أعانه بنفسه أو بغيره. لقوله: (فإن كلفتموهم فأعينوهم). وجاء في رواية مسلم: (فليبعه) موضع: (فليعنه). قال القاضي: هذا وهم، والصواب: ( فليعنه)، كما رواه الجمهور. الخامس: فيه المحافظة على