يستدعي الحلف، ولفظ اليد من المتشابهات، ففي مثل هذا افترق العلماء على فرقتين: إحداهما: ما تسمى مفوضة: وهم الذين يفوضون الأمر فيها إلى الله تعالى قائلين: * (وما يعلم تأويله إلا الله) * (آل عمران: 7) والأخرى: تسمى مؤولة، وهم الذين يؤولون مثل هذا، كما يقال: المراد من اليد القدرة، عاطفين * (والراسخون في العلم) * (آل عمران: 7) على: الله والأول أسلم، والثاني أحكم. قلت: ذكر أبو حنيفة أن تأويل اليد بالقدرة، ونحو ذلك يؤدي إلى التعطيل، فإن الله تعالى أثبت لنفسه يدا، فإذا أولت بالقدرة يصير عين التعطيل، وإنما الذي ينبغي في مثل هذا أن نؤمن بما ذكره الله من ذلك على ما أراده، ولا نشتغل بتأويله، فنقول: له يد على ما أراده لا كيد المخلوقين، وكذلك في نظائر ذلك. قوله: (لا يؤمن) أي: إيمانا كاملا، ويقال المراد من الحديث: بذل النفس دونه صلى الله عليه وسلم، وقيل: في قوله تعالى: * (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) * (الأنفال: 64) أي: وحسبك من اتبعك من المؤمنين، ببذل أنفسهم دونك. وقال ابن بطال: قال أبو الزناد: هذا من جوامع الكلم الذي أوتيه، عليه الصلاة والسلام، إذ أقسام المحبة ثلاثة: محبة إجلال وإعظام كمحبة الوالد، ومحبة رحمة وإشفاق كمحبة الولد، ومحبة مشاكلة واستحسان كمحبة الناس بعضهم بعضا، فجمع عليه السلام، ذلك كله. قال القاضي: ومن محبته: نصرة سنته، والذب عن شريعته، وتمني حضور حياته، فيبذل نفسه وماله دونه، وبهذا يتبين أن حقيقة الإيمان لا تتم إلا به، ولا يصح الإيمان إلا بتحقيق إنافة قدر النبي صلى الله عليه وسلم ومنزلته على كل والد وولد ومحسن ومتفضل، ومن لم يعتقد ذلك واعتقد سواه فليس بمؤمن، واعترضه الإمام أبو العباس أحمد القرطبي المالكي، صاحب (المفهم) فقال: ظاهر كلام القاضي عياض صرف المحبة إلى اعتقاد تعظيمه وإجلاله، ولا شك في كفر من لا يعتقد ذلك، غير أنه ليس المراد بهذا الحديث اعتقاد الأعظمية إذ اعتقاد الأعظمية ليس بمحبة ولا مستلزما لها، إذ قد يحمد الإنسان إعظام شيء مع خلوه عن محبته، قال: فعلى هذا من لم يجد من نفسه ذلك لم يكمل إيمانه على أن كل من آمن إيمانا صحيحا لا يخلو من تلك المحبة، وقد قال عمرو بن العاص، رضي الله عنه، وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له، وأن عمر رضي الله عنه، لما سمع هذا الحديث، قال: يا رسول الله أنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال: ومن نفسك يا عمر، فقال: ومن نفسي. فقال: الآن يا عمر. وهذه المحبة ليست باعتقاد تعظيم بل ميل قلب، ولكن الناس يتفاوتون في ذلك، قال الله تعالى: * (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) * (المائدة: 54) ولا شك أن حظ الصحابة رضي الله عنهم، من هذا المعنى أتم، لأن المحبة ثمرة المعرفة، وهم بقدره ومنزلته أعلم، والله أعلم. ويقال: المحبة إما اعتقاد النفع، أو ميل يتبع ذلك، أو صفة مخصصة لأحد الطرفين بالوقوع، ثم الميل قد يكون بما يستلذه بحواسه كحسن الصورة، ولما يستلذه بعقله كمحبة الفضل والجمال، وقد يكون لإحسانه إليه ودفع المضار عنه، ولا يخفى أن المعاني الثلاثة كلها موجودة في رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جمع من جمال الظاهر والباطن، وكمال أنواع الفضائل، وإحسانه إلى جميع المسلمين بهدايتهم إلى الصراط المستقيم ودوام النعم، ولا شك أن الثلاثة فيه أكمل مما في الوالدين لو كانت فيهما، فيجب كونه أحب منهما، لأن المحبة ثابتة لذلك، حاصلة بحسبها، كاملة بكمالها. وأعلم أن محبة الرسول عليه السلام، إرادة فعل طاعته وترك مخالفته، وهي من واجبات الإسلام قال الله تعالى: * (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم) * إلى قوله: * (حتى يأتي الله بأمره) * (التوبة: 24) وقال النووي: فيه تلميح إلى قضية النفس الأمارة بالسوء والمطمئنة، فإن من رجح جانب المطمئنة كان حب النبي عليه السلام، راجحا، ومن رجح جانب الإمارة، كان حكمه بالعكس.
(بيان الأسئلة والأجوبة). منها: ما قيل: لم ما ذكر نفس الرجل أيضا وإنما يجب أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه قال تعالى: * (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) * (الأحزاب: 33) وأجيب: بأنه إنما خصص الوالد والولد بالذكر لكونهما أعز خلق الله تعالى على الرجل غالبا، وربما يكونان أعز من نفس الرجل على الرجل، فذكرهما إنما هو على سبيل التمثيل، فكأنه قال: حتى أكون أحب إليه من أعزته، ويعلم منه حكم غير الأعزة، لأنه يلزم في غيرهم بالطريق الأولى، أو اكتفى بما ذكر في سائر النصوص الدالة على وجوب كونه أحب من نفسه أيضا، كالرواية التي بعده. ومنها ما قيل: هل يتناول لفظ الوالد الأم كما أن لفظ الولد يتناول الذكر والأنثى؟ وأجيب: بأن الوالد إما أن يراد به ذات له ولد، وإما أن يكون بمعنى ذو ولد نحو لابن وتامر، فيتناولهما، وإما أن يكتفى بأحدهما عن الآخر كما يكتفى بأحد الضدين عن الآخر. قال تعالى: * (سرابيل تقيكم الحر) * (النحل: 81) وإما